نقوشٌ على جدار واسعٍ

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

صديق المراسلة .. My Pen Friend


صديق المراسلة .. My Pen Friend
 (1)
 
هي فترة الثمانينات، كنت في سن المراهقة، في الخامسة عشرة من عمري، أعيشها مثل أية مراهقة تمتلك مساحة مقبولة من بعض الحرية. كنت أسرح وأحلم وأخيط لحظات رومانسية لذيذة مع أبطال السينما المصرية والعالمية، بالتأكيد عبدالحليم حافظ كان له نصيب الأسد وكنت أترقب فلم السهرة اليتيم في ليلة كل يوم خميس الذي يبثه تلفزيون سلطنة عُمان، وأستاء كثيرا عندما لا أشاهد قبلة متبادلة بين البطلين ولو كانت عابرة أو بريئة. فلم يكن هناك مجال لتذوق الطعم الحقيقي لتلك القبلة المثيرة، رغم توفر كل الفرص لإكتشافها، خوفا من أن أحترق في نار جهنم! كنت في وقتها أمتلك بعض الحرية بينما رأسي قد تم تعبئته بقصص مرعبة عن عذابات القبر وأبيات من قصيدة "الخرافة" لـ نزار قبّاني تتردد في مسامعي:

خوفونا من عذاب الله إن نحن عشقنا .. هددونا .. بالسكاكين إذا نحن حلمنا .. فنشأنا .. كنباتات الصحارى .. نلعق الملح ، ونستاف الغبارا.
 
كنت حينها أشبه بالشعوب العربية المقموعة التي كانت تخشى حتى من ظلها مع شبح المخبرين الذين يترصدونهم حتى وان تواجدوا بداخل جدران منازلهم وفي أوضاعهم الحميمية.
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(2)
 
كنت في فترة مراهقتي أعشق القراءة لكن أسرتي كانت منشغلة بتوفير الخبز أكثر من الكتب وكنت أشتري بمصروفي الشهري المتواضع سلسلة من القصص البوليسية المصرية "المغامرون الخمسة" التي عشقتها لحد الإدمان بل كنت في أحيانا كثيرة أتخيل نفسي أحد أبطالها وعضوة في الفريق وأنسج من خيالي مغامرات أكون طرف فيها. كما كنت أهوى قراءة المجلات الفنية خصوصا مجلة "الموعد" المصرية التي كانت تغطي أخبار الفنانين، والأمر الذي لم أستطع استيعابه هو منعي من قراءة تلك المجلات وذلك بسبب ذهابي بشكل يومي إلى أسرة مقتدرة مجاورة توفر لبناتها كل مايرغبن من الكتب والمجلات فأصبحت اقضي معهن ساعات طويلة في قراءة تلك المجلات. كما أدمنت بمتابعة سلسلة لمجلة قصصية عاطفية أجنبية مترجمة "نسيت اسمها"، وكانت تحتوي على رسومات تصويرية وأحيانا ترى فيها صورة للبطل وهو يقبّل البطلة مما شكتني شقيقتي لدى والدتي بأنني أقرأ في المحرّمات فتم منعي من زيارة تلك الأسرة.
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(3)
 
وفي 28 فبراير 1979 رأى النور أول عدد لمجلة ماجد وهي أول مجلة متخصصة للأطفال بمنطقة الخليج. وكان سعره الزهيد (200 بيسة) مناسبا لجميع الأطفال والمراهقين مما ساعد على إنتشارها بشكل سريع. فتعلقنا كثيرا بشخصياتها الممتعة مثل كسلان جدا وأخوه نشيط و فضولي وموزة الحبوبة وأخوها رشّود وغيرهم. كما تم في ذات العام 1979 تدشين برنامج "افتح يا سمسم" عن النسخة الأمريكية "Sesami Street" من إنتاج البرامج المشتركة لدول الخليج العربي وشارك فيه عدد من الممثلين العرب والأطفال وتم تعريب أسماء أبطاله بالإضافة إلى شخصيات نعمان وملسون وعبلة والضفدع كامل وقرقور وكعكي وأنيس وبدر التي أصبحت مشهورة جدا في  العالم العربي.
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(4)
 
وأيضا في بداية الثمانينات عاد جدي خميس الخروصي من زنجبار مع زوجته وأقاما معنا وكذلك خالتي دليلة رحمهما الله. وكن هاتان المرأتان تعشقان الأفلام الهندية بينما كنّا في البيت نتابعها من باب الفكاهة والسخرية. وبسبب جبروت هاتان المرأتان تم إضافة ثقافة جديدة إلى الأسرة وهي متابعة الأفلام الهندية وفي المقابل كان لامفر من الوقوع في غرام دارميندرا والغيرة من حبيبته هِيما ملّين. كما أن الأشرطة الصوتية كانت مصدرنا الوحيد والأسرع لمتابعة أحدث الأغاني العربية والأجنبية، لكن فجأة وبدون سابق إنذار هلّت علينا أشرطة الفيديو (البيتامكس) ذو الحجم الصغير و (VHS) ذو الحجم الكبير و كانت فرحة المراهقين لا توصف بظهور هذا الإكتشاف العظيم!
 


صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(5)
 
كانت والدتي تحكي لي كثيرا عن أصدقاء المراسلة التي كانت تتبادل المراسلات معهم في صباها عبر البريد التقليدي من زنجبار الى مختلف دول العالم. وكانت تتأسف كثيرا بسبب انقطاع الأخبارعنهم بعد تنقلها والترحال مابين زنجبار وعُمان. حينها قررت أن أخوض ذات التجربة وأن أكوّن لي صداقات عبر المراسلة البريدي. فتحت مجلة (الموعد) في صفحة بريد الأصدقاء ومررت بعيني بين الأسماء المختلفة، واحترت فيمن أختار فيهم حتى انتقيت اسما بعد تردد شديد وقلت لنفسي هذا يبدو قريبا من عمري سأكتب اليه، زكريا من أسوان – مصر، مرحبا بك يا أول صديق لي بالمراسلة. أخذت ورقة وقلم وقمت بصياغة رسالة مختصرة: "مرحبا أنا اسمي حبيبة من عُمان، في صف أول ثانوي، أخذت اسمك من مجلة الموعد وأرجو أن تقبلني صديقة لك بالمراسلة". أغلقت الرسالة وأعطيتها لوالدتي لكي ترسلها بالبريد من جهة عملها، فسألتني لمن هذه الرسالة؟ فجاوبتها: لصديقي الجديد بالمراسلة! وتأملتني بريبة ثم أخذت مني الرسالة على مضض.  
 
 

صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(6)
 
 مرّ ذلك اليوم بشكله الطبيعي حيث عدت من مدرستي، تغديت، ومن ثم استلقيت بخمول في غرفتي. ومثل العادة عادت والدتي من عملها بعدي بوهلة. سمعت أحدهم يفتح باب غرفتي ومن ثم وقعٌ لخطوات أقدام تدنو نحوي فلم ألقي بالا لها. وبغير عادتها كانت والدتي تقف أمامي وهي تنظر إلي، فتأملتها بإستغراب وسلّمت عليها ثم سألتها: ماذا هناك؟! فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها ظرف بريدي وقدمتها لي. نظرت إليها بإستغراب وتسلمتها منها بعد تردد وأنا أتسائل: ماذا .. ما هذا؟؟ قلبت الظرف ورأيت طابع بريد مصري، فتأملت والدتي التي منحتني إبتسامة هادئة وكأنها تقول لي أفهم هذا الشعور، انه ذلك الإحساس الذي ينتابنا لحظة استلامنا لأول رد بريدي من صديق بالمراسلة، وثم خَرجت. لم أفتح الرسالة مباشرة جلست أتأملها وأقلبها مابين يدي وأنا في حيرة من أمري! إذن هذا الأمر حقيقي، وهو يحدث مثلما قالت لي والدتي وأنه بإمكاننا أن نكوّن صداقات عديدة ومن مختلف دول العالم هكذا وبسهولة! حقا أن الأمر كان يسيرا ولم يتطلب مني سوى ورقة وقلم وظرف مكتوب عليه "بالبريد الجوي" وطابع وختم. وها أنا بعد أسبوعين أتلقى الرد، أجل ومنذ هذه اللحظة لم يعد "زكريا" مجرد اسم أو شخصية وهمية مجهولة الذي طُبع اسمه وعنوانه للعامة في مجلة فنية وبورق رخيص وحبر باهت. زكريا أصبح الآن صديق حقيقي أكتب اليه وهو يعقب على رسائلي.
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(7)       
 
تجاوزت مرحلة التوتر و بدأت بفتح الرسالة بحركة سريعة حتى كدت أمزقها. ماذا يا ترى سيكون قد كتب؟ ربما قد أعجب بخطي وبجرأتي أو قد يكون شخصية وقحة و تجاوز في رسالته حدود الأدب وسوف أمزق رسالته هذه الآن وأنسى أمره تماما، لنرى إذن ماذا كتب! أدرت بظهري بعيدا عن باب الغرفة خشية أن يدخل عليّ أحد إخوتي فيقلق خلوتي مع صديقي الجديد بالمراسلة زكريا، فتأملت الرسالة بعينين ثاقبتين وقربتها لوجهي حتى كادت أن تلمس أنفي، ألقيت نظرة إلى خط يده المنمق ورأيت كلمات كثيرة مكتوبة بتعبير جميل، فتعجبت من أين أتى بها وأنا لم أكتب له سوى كلمات بسيطة! حسنا دعنا نركز ونبدأ بقراءة الرسالة بتمعن:
 
"السلام عليكم يا حبيبة ، لقد سعدت كثيرا بإستلام رسالتك تلك، أنا اسمي خالد طالب جامعي في السنة الثانية أدرس القانون في القاهرة و أهلي من الفيوم، يا ترى هل قمتي بزيارة القاهرة من قبل؟ أنا لا أعلم شيئا عن عُمان يا ليت لو تحدثيني عنها قليلا ..."
وبدأ يحدثني عن حياته الخاصة ومن ثم ختم رسالته بجملة:
 
" أتشوق للسماع منك قريبا يا حبيبة .. محبك، زكريا "
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend         
(8)
 
استمرت الرسائل المتبادلة بيني وبين صديقي بالمراسلة زكريا لفترة تقترب عن العام. وكانت والدتي قد تعودت على ارسال واستلام بريدنا المتبادل، وخلال تلك الفترة عرفت من خالد الكثير عن تفاصيل حياته، حول دراسته وأهله وقريته ورحلاته الجامعية وطموحاته، فقد كان من الأشخاص الذي يستمتع بالبوح. و كانت كلماته مفعمة بالآمال والأحلام والطموحات بمستقبل جميل، ومن جانبي كنت أحدثه عن نفسي على مضض، فليس هناك مجال لمجاراة كلماته المعبّرة المنتقاه بأسلوبه الجميل. وبعث لي بصورته الشخصية، وكان يظهر فيها وهو واقف أمام جامعته، ولم تكن ملامحه واضحة جيدا، لكن ذلك لم يشغلني كثيرا، ومن جانبي بادلته بإرسال صورتي اليه. ودائما كان صديقي زكريا هو المبادر بالسؤال عني كلما أصابني الضجر وانقطعت عن الكتابة. بل في الحقيقة كان زكريا هو مَن يدير صداقتنا تلك و يهتم بإستمراريتها، وكنت أقلده مثلما تفعل طالبة ابتدائية تتعامل مع معلمها. وبعد مضي العام الأول من صداقتنا مرت أشهر عديدة لم ألتفت اليها دون أن أستلم منه أية خطاب و لكن مع مرور الوقت بدأت بسؤال والدتي فيما اذا كانت تراجع صندوق بريدنا وأجابت بأنها تفعل. وبعد إنقضاء ستة أشهر دون خبر من زكريا بدأ القلق يساورني فقمت بكتابة خطاب أطمئن فيها على أحواله ولم أتلقى أي رد، وبعد تسعة أشهر أرسلت بخطاب آخر وأيضا دون رد. احترت عن السبب وراء هذا الإنقطاع المفاجيء فلم تكن من عادته! نقلت قلقي لوالدتي ولم تعلم بما تنصحني به. وبقي شبح اسم زكريا يظهر ويختفي من آن لآخر إلى أن وجدت لنفسي تحليلا منطقيا يجردني من ذلك القلق الذي اعتراني، وهو أن زكريا قد تخرج من جامعته وقد خطب فتاة ما أو ربما قد تزوجا الآن، وهي، أي، خطيبته أو زوجته قد طلبت منه بالتوقف عن مراسلة البنات. اطمأن قلبي من ذلك الإستنتاج و أزال عني شبح القلق وقررت نسيان صديقي زكريا أو أن أتناساه.
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(9)
       
بدأ العام الدراسي الجديد وها أنا في المرحلة الثانوية العامة، وكعادتي أعود الى البيت قبل والدتي. لكن يومها تكررت ذات الخطوات القديمة المعتادة التي كنت قد نسيتها منذ أمد، وبعد أن توقفت عن السؤال وبتأمل حقيبة يدها كلما عادت . وجدتها واقفة أمامي بالغرفة وهي تحمل رسالة في يدها، ويومها شعرت وكأن الفضول قادها هي كذلك لمعرفة محتواها. جلست على فراشي وهذه المرة فتحت الرسالة بسرعة فائقة! قرأت الرسالة سريعا التي لم تكتب بخط يده المعتاد وبحثت بعيناي عن والدتي التي لم أشعر بخروجها.
 
" السلام عليكم يا حبيبة أعتذر عن إنقطاعي الطويل في الكتابة اليك وذلك لظروف خارجة عن إرادتي. فقد وقع لي حادث سير أليم منذ فترة طويلة لا أستطيع تذكرها، وكنت أرقد في المستشفى في غيبوبة تامة وانقطعت عن الجامعة والدراسة بسبب الإصابة و فقداني للذاكرة، كما أن حالتي الصحية ليست مستقرة فإدعي لي بالشفاء العاجل وسوف أكتب إليك بأقرب وقت ممكن. محبك زكريا "
 
  يا الهي .. يا الهي قلبت الرسالة مرارا وتكرارا آملة بأن يكون قد كتب رقم هاتفه أو اسم شخص أو عنوان لبريد بديل لكي أطمئن عليه من خلاله، قد يكون أحد اخوته أو أصدقاءه أو أحد أفراد أسرته ..  لكن لا شيء! عبّرت عن قلقي الى والدتي وزميلات المدرسة وكل من اعرفه ومن لا أعرفه، وكتبت له رسالة بعد أخرى وأصبحت الآن أنا المبادرة، ولم أتلقى أية رد لرسائلي العديدة والكثيرة .
 
 
 
صديقي بالمراسلة .. My Pen Friend
(10)
     
ها أنا أزور مدينتك القاهرة يا زكريا، وفي فترة قريبة جدا بل أقرب مما تصورنا، في رحلة كشفية مدرسية، وها أنا هائمة في مدينتك المكتظة بالبشر ولا أعلم شيئا عن مصيرك أو مكانك ولا الوسيلة للتواصل معك، بل لست واثقة إن كنت حيا أم ميتا، أو كنت مقعدا أم لازلت فاقدا للذاكرة. أبحث عنك وسط الوجوه الكثيرة الكثيرة حتى من أمام جامعتك كلما مررنا من أمامها أُمني النفس بأن تكون معيدا فيها أو ربما تزوجت فعلا وأنجبت طفلة جميلة، وقد تكون احد هؤلاء الآباء من المارة هذا أم ذاك! وربما تكون قد انغمست في الحركة السياسية الطلابية، وتحولت إلى ثائر وشاركت في مظاهرات جامعتك وأعتقلتك المخابرات المصرية وتقبع الآن في سجون مبارك ولهذا تعجز عن الكتابة فقد مُنع عنك الورق والقلم بداخل زنزاتك الإنفرادية بسبب منشوراتك الحماسية تلك!  
 
آآه كم أكره النهايات المفتوحة لمثل هذه القصص ..
 
لأنك تبقى حائرا ولا تعلم فيما لو تقتل البطل أو تنسج له نهايات سعيدة ! و ها أنا أتجرع مرارة ما تجرعتيه يا أمي، و أعيش الآن ألم فقدانك لأصدقاء القلم والورق. لكن مهلاً، قل لي مَن تكون في الحقيقة أنتَ يا زكريا لكي تسكنني و يطاردني شبحك بعد كل هذا العمر؟ في الواقع أنت لست سوى ورق وحبر فلِمَ أسمح لك بأن تتسبب لي كل هذه الهواجس والحيرة؟ أنت لست سوى شخصية وهمية اقتبستها من رواية رخيصة ولم ألتقِ بك في حياتي وربما تكون كل كتاباتك مختلقة وكاذبة، فلِمَ أصبحت وقعها مؤلم لهذه الدرجة .. خمسة وعشرون عاما مرّت وتزيد، وكلما طرأ إسمك يا زكريا أجدني عاجزة عن حسم نهايتك ، أجدني عاجزة عن وضع نقطة النهاية وكلمة إنتهى ..
 
 حبيبة الهنائي
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق