نقوشٌ على جدار واسعٍ

الخميس، 23 أكتوبر 2014

الشايب والخنجر





في بداية التسعينات كان مجمع الحارثي هو مركز المدينة ونقطة الالتقاء حيث تكتظ وجوه البشر في تلك البقعة من مسقط خصوصا في أجازة نهاية الاسبوع (الخميس والجمعة) للتسوق أو لأخذ الأطفال الى الطابق الأرضي للعب حيث يوجد هناك ركن مساحته صغيرة لألعاب الأطفال لكنه بنظر الأطفال كان بحجم مدينة ديزني للملاهي. كنت كعادتي أمشي بخطى سريعة نحو محلي المفضل بعدما وقفت قليلا عند محل للصور واللوحات الزيتية التي يصعب تجاهلها خصوصا وأن تلك اللوحات تكون معلقة بخارج المحل. ومررت على موظفة الاستقبال التي كانت ترحب بي دائما بوجهها البشوش وتوبخني ان لم أفعل، وفي كل مرة تراني فيها تردد بمسامعي بأنها تعرفني جيدا وتعرف عائلتي ، فأومأ برأسي لها مؤيدا وأتظاهر بأني قد تعرفت على عائلتها بعدما تبدأ بثرثرتها المعتادة وهي تذكر اسم أمها وأخواتها وعماتها وجداتها وزوجات اخوانها. ولو بقيت معها لفترة أطول لأساعدها في قتل وقتها الذي تقضيها هناك في ذلك الركن لساعات طويلة من خلال الثرثرة مع زوار المجمع ، فسوف تبلغني عن حصيلة الاسبوع عن أخبار مسقط، من تزوج ومن توفى ومن خسر أمواله ومن اغتنى. لكني أزعم دائما بأني في عجلة من أمري أو بأني لم أجد موقف لسيارتي في خارج المجمع المزدحم ويتطلب مني انهاء مهمتي سريعا لكي أخرج لأحرك سيارتي التي تقف في زاوية وضع بجانبها لوحة كتب عليها ممنوع الوقوف، ولاحقا أتعمد التوجه الى مخرج آخر لكي لا تكتشف كذبتي. وكنت أقترب من محلي المفضل المواجه لمدخل المجمع وهو محل لبيع بطاقات التهنئة حيث أستمتع بقضاء وقت طويل بداخله بتأمل مختلف البطاقات وقراءتها. وقد لازمتني هذه الهواية الممتعة في بريطانيا أثناء إقامتي هناك للدراسة، خصوصا عندما يكون الجو قارس البرودة ولا أجد مكان أذهب اليه سوى مركز المدينة حيث الدفء. وبدأت بقضاء أوقاتي في محلات البطاقات وشراءها، وعندما كثرت عددها ، ولم تكن رخيصة على الاطلاق، اقتنيت علبة زهرية من الورق المقوى وكنت أحتفظ فيها بمجموعتي من البطاقات التي كنت أنتقيها بعناية شديدة. وبطاقاتي تلك لم تكن معنية لشخص محدد أو لمناسبة ما، فقد كانت مكانها هناك في علبتي الملونة. وكنت كلما أشعر بالضجر أفتح علبة البطاقات وأتأمل محتواها بمتعة بالغة فكل بطاقة هي عبارة عن لوحة فنية ابتكرها مصصمها وكنت أقلب بيدي تلك اللوحة الفنية الصغيرة وأتأملها لساعات طويلة وأنا أستمع لأغنية أبو بكر سالم: 

يقول إنني فضلت
إنني فضلـت غيـره عليـه
وغيـره معـي يطلـع كمـا ايـه
انا مانظـر فـي النـاس الا اليـه
وقلبـي معـه وحـيـاة عينـيـه
وإن شــك أو كـثـرت ظنـونـه
فمـازال هـو سيـد المضانـيـن

وكم كان صوت أبو بكر سالم يشعرني بالغربة في شتاء يناير القارس والثلوج تكسو الأرض بخارج نافذة غرفتي. وكنت أقلب في بطاقاتي وأتبسّم على الفكاهية منها وكلما كانت مبتذلة تعلو ضحكتي من شدة كوميديتها. وبعضها تكون عاطفية وبعضها تدعو بالشفاء العاجل وبعضها تهنئ بالنجاح وبعضها تشتم حبيبها السابق أو طليقها وبعضها تحتوي على كلمات رقيقة لأمي أجمعها مسبقا لكي ارسل اليها قبل يوم عيد ميلادها بوقت كاف لكي تصلها في موعدها أو في عيد الأم أو عيد الاضحى. كما كنت أحتفظ بالبطاقات التي أتلقاها وأغلبها تصلني بمناسبة عيد ميلادي لكن المفضلة لدي تلك البطاقات لزميل دراسي أعرفه منذ فترة مراهقتنا وكان يدرس في منطقة أخرى وهو رسام ماهر وكنت أتلهف لوصول بطاقته في يوم عيد ميلادي فقد كان من عادته أن يشتري بطاقات خالية أحيانا تكون بيضاء وأحيانا ملونة ويقوم هو برسمها بتصميمه هو وبلمسته الخاصة هو وكل بطاقة تكون لوحة رقيقة مبتكرة منه وإهداء خاص لصاحب المناسبة ومن ثم يخط كلمات التهنئة بخط يده الأنيق تكاد لا تستطيع أن تفرق بينها وبين البطاقات الجاهزة التي تباع في المحل ، في الحقيقة تلك كانت أجمل بطاقات التهنئة التي تلقيتها في حياتي على الاطلاق. اذن بطاقاتي تلك هو كنزي الصغير وكل ما يحتوى في علبتي الصغيرة المصنوعة من الورق المقوى الملون.

كدت أصل الى باب محل البطاقات عندما قطع علي طريقي وشرودي شايب يرتدي دشداشة بيضاء ويربط رأسه ]المصّر[ العماني بشكل مهمل وكان يحمل في يده صندوق مخملي عنابي اللون وفتحه أمامي قائلا:

-         من فضلش يا بنتي تشتري مني هذا الخنجر أنا أبيعه بـ (30) ريال وقيمته أغلى من كذاك بكثير لكني محتاج شوي ومضطر أبيعه ..
-         ايش أسوي فيه يا الوالد أنا ما أحتاج له وبعدين توني بديت أشتغل يعني الحال من بعضه ..
-         من فضلش يا بنتي تراني أدُور في المجمع من ساعة ومحد باغنه وأنا محتاج ضروري ..
-         صدقني يا الوالد الحين ماعندي هذا المبلغ يعني لازم أسير أسحب من جهاز السحب وتو أنا واجد مستعجلة أكيد بتحصل حد يبغاه ويشتريه منك ..
-         من فضلش ساعديني يا بنتي ..
-         نزين شايف هذا المحل اللي قدامك أنا بدخل فيه الحين وانت حاول تبيع الخنجر ولما أخلص وحصلتك بعدك ما بعته عاد أمري لله بشتريه منك، أتفقنا ؟

بعد أربعون دقيقة خرجت من محل البطاقات ووجدت الشايب ينتظرني بالخارج وبيده الخنجر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق