نقوشٌ على جدار واسعٍ

السبت، 11 مارس 2017

إصابتي بداء الرهاب (الفوبيا) من الأماكن المغلقة



من الصعب على إمرأة مثلي التي كانت يُردّد على مسامعها منذ نعومة أظافرها جملة [ أنتِ شجاعة .. أنتِ شجاعة] حتى أصبحت حافزا لها لمجابهة قساوة هذه الحياة ورفع شعار التحدي أن تعترف يوما ما وتتقبل فكرة إصابتها بداء الرهاب أو الفوبيا من الأماكن المغلقة.

تعود القصة إلى تاريخ 31 مايو 2012، وهو اليوم الذي وقع فيه حادثة غير متوقعة، وهي إعتقالي مع إثنين من زملائي من النشطاء الحقوقيين، وذلك في منطقة إمتياز النفطية الواقعة بصحراء فهود؛ أثناء تغطيتنا لإضراب عمال النفط من العُمانيين العاملين هناك، الذين زاد عددهم عن أربعة آلاف عامل. وكانوا يطالبون بحقوقهم المهضومة، مثل زيادة الرواتب والعلاوات وتحسين ظروفهم المعيشية مساوية بإمتيازات العمال الوافدين. في ذلك اليوم المشؤوم تم إعتقالنا وثم إقتيادنا إلى مركز شرطة فهود. وبعد ساعات طويلة من الإنتظار تم نقلنا إلى مسقط داخل سيارة مصفحة بينما كانت أيدينا مكبلا بالأصفاد. وكما يبدو أن السائق قد تلقى الأوامر بعدم تشغيل التكييف داخل العربة المصفحة، أثناء رحلة نقلنا المهينة من صحراء فهود إلى مسقط؛ التي استغرقت أكثر من خمسة ساعات كاملة. وذلك خلال موسم الصيف الحارق لشهر يونيو. حيث درجة الحرارة قد تصل إلى خمسين درجة مئوية وتزيد. كما كان السائق يتعمد الوقوف عمدا في كل مركز للشرطة نمر منه في طريقنا وذلك لتأخير موعد وصولنا ومضاعفة معاناتنا.

يتعرض جسد المرأة بشكل طبيعي مع التقدم في السن من إضطرابات هرمونية؛ ونتيجة لذلك نعاني بشكل عام من سخونة في الجسم، والإحساس بالحرارة أكثر من الآخرين. بالتالي عندما أعتقلت كنت في الـ 46 من العمر؛ إضافة إلى ذلك كنت ولا أزال أعاني من اضطراب هرموني في الغدة الدرقية؛ مما يؤدي إلى مضاعفة تلك الأعراض. ولهذا بدأت أشعر بالضيق في التنفس مع زيادة ضربات القلب. لقد تملكتني رغبة جامحة إلى فك حمالة الصدر بسبب شعوري بالإختناق والصعوبة في التنفس نتيجة لحرارة الجو القاسي لكن دون جدوى. فالأصفاد التي كانت تكبل يداي أعاقتني عن الحركة. كما تجاهلت الشرطية المرافقة لجميع توسلاتي عندما حاولت إقناعها بإزالة ساعة اليد التي كانت في معصمي؛ حيث كانت الأصفاد تضغط عليها بشدة وتسبب لي آلاما مضاعفة. حينها بدأ الإحساس بالعجز يسري في دمائي، الذي بدأ بالظهور منذ لحظة إعتقالي، ولم يسمح لي فيها الإتصال بإبني، الذي يبلغ الثالثة عشرة من عمره، رغم توسلاتي، كوني تركته وحيدا في البيت، وعندها فصلت عن العالم.

السيارات المصفحة، القيد، الموسيقى العالية، غرف التحقيق، الحبس، الأصوات التي تخرج من الجدران، الهزات، الطلقات النارية، الإضاءة الشديدة، لا أنام. لقد كانت أيام معدودة، لكنها كانت كفيلة بإيقاع الضرر النفسي. إضافة مع عدم السماح لي الإتصال بإبني، وحيدي، ومجددا فصلت عن العالم.

لقد أفرج عني، بعد أربعة أيام فقط. أكرر [فقط] لأن تلك الأيام لا تساوي شيئا أمام ما حدث بعد ذلك للبقية!

لكن التهديدات لم تتوقف، كذلك التحقيقات، والتوقيع على التعهدات التي أختتمت في العام 2016م بالمحاكمة التي جاءت في التوقيت القاتل أو مثلما يقولون كانت ضربة معلم. لأنهم يدركون تماما أن نقطة ضعفي الوحيدة التي بإمكانهم التلاعب فيها بأعصابي من أجله هو إبني الوحيد ومستقبله. لقد كان رجائي الوحيد لهم أن يتركوني وشأني خلال هذا العام؛ حتى ينهي إبني من دراسته في مرحلة الدبلوم العام. فهو كل ما أملك ، وأنه إستثماري الوحيد. لكن الشيطان قرر تنفيذ عقابه خلال تلك الفترة بالتحديد وإلا كيف سيكون عقابا؟! لقد فرضت علي الظروف القاسية كتمان خبر تعرضي للمحاكمة عن إبني وعن الرأي العام لكي لا يصله الخبر ويشغله عن دراسته. لقد كانت صفعتي المرتدة لهم عندما حصل إبني على نتيجة مشرفة في الإختبارات النهائية للدبلوم العام [95.5%]. الآن لتذهبوا جميعا إلى الجحيم سأترك لكم البلد ولن أغفر لكم ماحييت. وأدعو الواحد الأحد أن يرتد كل أذى تسببتم لي ولغيري لكم ولأبناءكم.

منذ العام 2012م بدأت أعراض الرهاب تطفو لكن بشكل تدريجي. القلق المبالغ فيه قبل ركوب الطائرة، كلما علقت في مكان مكتظ بالبشر وعجزت فيه عن الحركة بحرية، داخل دورات المياه. لكن وجودي في ألمانيا جعلتني أكتشف أماكن أخرى، قطارات الأنفاق ودور السينما والمسارح لكن أصعبها المصعد الكهربائي. حينها أصاب بحالة الـ [Panic Attack] أو حالة من التوتر الشديد والتعرق وتسارع في ضربات القلب والشعور بالضيق والإختناق. أنه الشعور بالعجز وفقدان القدرة في التحكم بالمكان. لقد تجاهلت وسخرت مما أعاني منه كثيرا. لكنه كبر مثل الكرة الثلجية؛ وأصبح يشل حركتي ويتحكم في حياتي وكيفية إتخاذ قراراتي في التنقل والسفر وأسلوب الحياة. لم أعد أستطيع البقاء طويلا في قطار الأنفاق قبل أن أضطر بقطع الرحلة والخروج منه لأتنفس الصعداء وأستنشق بعض الهواء. وبالتالي أضطر الخروج باكرا لكي لا أتأخر عن إرتباطاتي. كما أصبحت أتجنب الحجز في رحلات الطيران الطويلة المباشرة وأنتقي الرحلات القصيرة المقطوعة للتقليل من فترة بقائي في الطائرة رغم كون هذا الخيار مرهق جدا. كما أصبحت لا أوصد أبواب دورات المياه سواء في المنزل أو الأماكن العامة مثل القطارات و الطائرات و المطاعم والمراكز التجارية الخ. كثيرا ما يضطر إبني أن يقف خارجها لكي يراقب الباب في حال مرافقتي له.

يصعب على إمرأة مثلي الإعتراف عن إصابتها بهذا النوع من الضعف أو أن تتقبله. لأننا عندما نتحدث عن تعرض أجسادنا للتعذيب غالبا نبرهن ذلك بإظهار آثار الكدمات والندوب وجعلها ظاهرة للعيان. بينما هناك نوعا آخر من التعذيب لكنه غير ملموس وغير مرئي. هدفه الفتك بالروح وخنقها من الحنايا لكي تموت موتا بطيئا تماما كالمرض الخبيث.
حبيبة الهنائي
برلين 11 مارس 2017