نقوشٌ على جدار واسعٍ

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

هديـر الصحـراء



سلسلة من اللقاءات مع نساء مناضلات والمدافعات عن حقوق الإنسان

الحلقة (1)

لقد تشرفت مؤخرا بالمشاركة في ملتقى الخط الأمامي السابع للمدافعين عن حقوق الإنسان في العاصمة الآيرلندية دبلن، كما تشرفت من خلال ذلك التجمع الدولي  الكبير والمؤثر بمقابلة الطليعة من النسوة المناضلات اللاتي حضرن من مختلف دول العالم. وعليه فقد قمت بإعداد هذه السلسلة والتي تحتوي على قصص كفاح بعض من هؤلاء النسوة، كونه واجب وطني وأخلاقي وانساني؛ فمن خلال إطلاعنا وتفاعلنا مع قضايانا المشتركة ولمس همومنا وأحلامنا الكبيرة ، نبني علاقة تأخذنا الى ما فيه خدمة للانسان، بحيث تجسد العمق العربي الفاعل لخدمة الوطن والقضية والرسالة، و تضفي قيمة ومعنى بكل ما يهم الانسان في وطننا الممتد من المحيط إلى الخليج، لكي يربطنا بهذا العالم الواسع والمفتوح، فنبني معا جسورا من الأمل لتعبر بنا نحو مستقبل أفضل.

حواري الأول سيكون مع سيدة مناضلة ومدافعة عن حقوق الإنسان وهي تُعرف في الصحراء الغربية بإسم "الغالية عبدالله محمد"، من مواليد 28 مايو 1961، ومسجلة في الوثائق الرسمية بالمملكة المغربية بإسم "الغالية دجيمي"، بعد أن فرضت الحكومة المغربية للسكان الصحراويين حمل لقب أو اسم العائلة. و "الغالية دجيمي"، حاصلة على شهادة دبلوم في التقنية الفلاحية، وهي احدى المعتقلات السابقات المجهولي المصير ، وهي أم ومتزوجة من رفيق معتقل سابق. وهذه السيدة المناضلة ذاقت خلال فترة إختفاءها القسري مع المئات غيرها من أبناء شعبها أشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والممارسات المهينة التي تمس بكرامة الإنسان والشرف خصوصا بالنسبة للمرأة، لكنها لم تذعن أو تنكسر؛ فهذه الشخصية الإستثنائية والشجاعة لها مواقف بطولية وصولات وجولات سنتعرف عليها من خلال هذا الحوار:



عرفينا بـ إقليم الصحراء الغربية ؟
إقليم "الصحراء الغربية" عبارة عن منطقة ذات مناخ صحراوي تقع شمال غرب أفريقيا وتربطها في الحدود مع المغرب وموريتانيا والجزائر؛ وهناك جزء منه محتل من طرف المغرب منذ عام 1975، وأنا أقيم في هذا الجزء، وهو يمثل حوالي 80% من أرض الصحراء الغربية، وهناك جزء ثاني يقيم فيه نصف شعبي مساحته 20% من الأراضي المحررة عند جبهة بوليساريو ومخيمات اللاجئين على أرض الجزائر. ولهذا فإن إقليم الصحراء الغربية هو إقليم غير مستقل، وهي أرض متنازع عليها بين المغرب وجبهة "البوليساريو، علما بأن السكان الصحراويين هم من الأقليات من بين سكان المغرب.


وما هي جبهة البوليساريو ؟
"البوليساريو" هي جبهة التحرير الصحراوية التي تأسست في عام 1973، تزامنا مع موعد استعداد إسبانيا للإجلاء من الصحراء الغربية، والهدف من تأسيسها هو الإعلان عن رفضها السيادة المغربية على إقليم "الصحراء الغربية، على إثر المطالب المغربية بذلك في المحافل الدولية. وعلى إثره أعلنت جبهة "البوليساريو" في المهجر قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وذلك بتاريخ 27 فبراير 1976، وأنها تسيطر على 20% من الإقليم المتنازع عليه، وطالبت بالسيادة على كامل أراضي الصحراء الغربية التي كانت مستعمرة سابقة لإسبانيا. وقامت الجبهة بتشكيل أول حكومة صحراوية برئاسة "محمد الأمين أحمد" في 6 مارس 1976، التي ضمت عددا من الوزارات .


صفي لنا كيف كانت حياتكم في السابق؟
قبل عام 1984، كان إقليم "الصحراء الغربية" عبارة عن منطقة فيها مجموعة من القبائل البدو التي كانت حياتهم حياة رعي وتنقّل من مكان إلى مكان، وهم قبائل من أصول عربية أغلبيتهم يقال بأن أصولهم من اليمن. و أكبر مدنها "العيون"، ويتمركز فيها غالبية السكان، وهي الآن عاصمة الصحراء الغربية ومحتلة من طرف المغرب، وهناك مدينة "السمارة"، وهي العاصمة الثقافية ومدينة "الداخلة" ومدينة "بوجدور"، وكلها تقع في الإقليم المحتل، وللأسف لا توجد لدينا إحصائيات واضحة تبين عددنا الحقيقي، ولكن من خلال تقديري الشخصي أستطيع أن أقول إن عددنا ربما يقترب من حوالي مائة وخمسين ألف مواطن صحراوي، وهو عدد قليل جدا في إقليم شاسع وخيراته وافرة.


وماهي هذه الخيرات ؟
لدينا في الإقليم خيرات وافرة، والكثير منها تستثمرها المغرب، ولا شيء يعود للصحراويين، فمثلا نحن نمتلك شواطئ ساحرة مساحتها حوالي 2000 كيلو متر التي تحتوي على أغنى الأحواض السمكية في العالم، ولدينا أغنى أنواع الفوسفات في العالم وأهمه من حيث المبيعات في المغرب، ويتواجد بالإقليم مخزون احتياطي من البترول والغاز الذي لم يستخرج بعد، كما هناك اليورانيوم والحديد والطاقات النظيفة، كالطاقة الهوائية والشمسية، وكل هذه الخيرات محل النزاع ومصدر لأطماع الغير.


وماذا حدث بعد الإنسحاب الأسباني للإقليم ؟
الذي حدث أنه في شهر أكتوبر من 1975، حصلت اتفاقية ثلاثية تنص بموجبها على انسحاب أسبانيا عن الإقليم، وتم تقسيم الإقليم ما بين المغرب وموريتانيا، الجزء الجنوبي وهو "وادي الذهب" لموريتانيا، والجزء الشمالي وهو إقليم "الساقية الحمراء" للمغرب، ومع استفادة أسبانيا من حوالي 30% من خيرات الإقليم لمدة عشرات السنين. كما أن التقسيم مع موريتانيا للإقليم ما بين عام 1975 الى 1978 أنهكت موريتانيا في الحرب، وبالتالي وقّعت موريتانيا اتفاقية سلام مع جبهة بوليساريو، واعترفت بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وتخلت عن الإقليم، لكن ونظرا لتواجد الجيوش المغربية في إقليم "وادي الذهب" أثناء انسحاب موريتانيا عنه، قامت المغرب بضم إقليم "وادي الذهب" إلى حكمها، وبالتالي أصبح كل الإقليم اليوم تحت الإدارة المغربية.


وكيف جاء احتلال المغرب للإقليم الصحراوي؟
عندما جاءت المغرب للإقليم لم تدخل جيوشها إلينا بطرق سلمية، إنما دخلت بقوة احتلال كبيرة، وقامت بتنفيذ العديد من الجرائم البشعة المجردة من الإنسانية مثل الإبادة الجماعية، والإختطاف القسري، والعقاب الجماعي لجميع العائلات الذين أفرادهم توجهوا إلى مخيمات اللاجئين، ومن ثم انضموا إلى الجيش الشعبي لتحرير "الساقية الحمراء ووادي الذهب"، وقامت تلك القوات بالقتل المباشر وبتسميم الآبار ورمي الناس أحياء من الهليكوبترات وترحيل قسري للبدو بمجرد دخولهم للمدن.


و كيف تم إعتقالك؟
في عام 1987، عندما كنت في السادسة والعشرين من عمري كنا وقتها على وشك استقبال لجنة أممية إفريقية، وتلك كانت أول زيارة لها والتي ستشرف على مشروع السلام في الصحراء الغربية، وفكرنا نحن كصحراويين بأن الإقليم يقع تحت التعتيم العسكري والإعلامي ولا أحد يعلم عنا شيئا، فقلنا إن هذه المناسبة وهذا التواجد الدولي هي الفرصة السانحة لنا للتعريف بقضيتنا والقمع الذي نتعرض له بسبب الإستعمار المغربي، ويتطلب منا إبراز قضية مجهولي المصير منذ عام 1975، فلم يكن لأي أحد الحق بالسؤال عن أهله المفقودين وحتى ذاك الوقت من عام 1987، فقررنا الخروج في مظاهرات عارمة تزامنا مع مجيء الهيئة الأممية الإفريقية.


وماذا حدث بعد ذلك ؟
كانت السلطات المغربية أقوى منا ولإستباق الأحداث بدأت بإجهاض الجهود لقيام تلك التظاهرات بفترة أربعة أيام قبل موعد زيارة اللجنة الأممية، حيث قامت بإعتقالات واسعة شملت حوالي (500) مواطن صحراوي، وقاموا بتعذيب (400) منهم حتى الموت، ومن ثم تم ارسال جثثهم إلى أسرهم مع رسائل تهديد عبر آثار التعذيب على جثث أحبائهم وتهديدهم من مغبة التحدث مع اللجنة الأممية، بينما احتفظوا بالمائة المتبقية وأنا كنت من ضمن 19 إمرأة. وتلك كانت رسالة أخرى مفادها بأن ذلك هو المصير الذي ينتظر كل من سوف يتحدث مع اللجنة الأممية، وهو يا إما التعذيب حتى الموت أو الإختطاف لكي ينضم الى قائمة مجهولي المصير مثل المختفين قسريا منذ عام 1975. وبالتالي تشكل خوف شديد لدى الصحراويين بعد أن مورس ضدهم إرهاب الدولة فاستسلم الناس ولم يتحدث أي منهم أثناء تواجد اللجنة الأممية وحتى مغادرتها. وبالتالي استمر تعذيبنا ومعاناتنا مع الإختفاء وأصبح مصيرنا هو ذات مصيرالمختفين في عام 1975.


وما هي التهم التي وجهت اليكم ؟
كانت كل التهم المنسوبة الينا تتمحور حول علاقتنا بجبهة البوليساريو وجبهة التحرير الصحرواية، رغم أن هذه الجبهة بجناحيها العسكري والمدني تشكلت منذ تاريخ 10 مايو 1973، ولقد تم إطلاق أول رصاصة بتاريخ 20 مايو من نفس ذلك العام ضد الإستعمار الإسباني. ولقد انطلق ذلك الحراك على خلفية الحراك التحرري الذي كان حاصلا في أفريقيا والعالم العربي، مما تشكل الوعي التحرري لدى الشعب الصحراوي تحت الإحتلال الإسباني، وتلك كانت البداية لمسار نضال الشعب الصحرواي. والذي أود توضيحه بأن جبهة التحرير الصحراوية تشكلت قبل ثلاث سنوات من غزو المغرب، حيث قامت طلائع التحرير بتنظيم مظاهرات كبيرة في عام 1970، وتلك كانت المبادرات الأولى والإنطلاقة الحقيقية لحركة التحرير، وأثناء تلك الأحداث سقط شهداء وجرحى وحدث أول فقدانِ مجهولِ مصير وهو "سيدي محمد إبراهيم بصيري".


ما حقيقة ظاهرة الإختفاء القسري ؟
أحب أن أركز على حقيقة ظاهرة الإختفاء القسري كوني ضحية سابقة من ضحايا الإختفاء القسري، وذلك مابين سنة 1987 الى 1991 ولحوالي أربع سنوات. وأيضا تم اختطاف أمي من ضمن مجموعة أخرى من الصحراويين منذ عام 1984 وحتى اليوم مصيرها لا يزال مجهولا. وخلال فترة اختفائي وتجربتي مع الإختفاء يعني بإختصار لما شاهدت الصور التي خرجت عن سجن "أبوغريب" كانت كلها صورا أنا عشتها في ذاتي، وذكرتني بالذي عشته أنا ورفيقاتي وأخواتي والذي عاشوه من هم قبلي، فمثلا أنا أحمل آثار عض الكلاب على ذراعي وفي ظهري، كما أن شعري سقط من خلال المواد الكيمياوية التي مورست عليّ أثناء عملية الخنق بالخرق الموّسخة، ومن ثم منعنا من الإستحمام لمدة  ثلاثة أشهر و 27 يوما، وذلك لأجل إبقاء آثار هذه المواد على أجسادنا مما أدى لاحقا إلى سقوط شعري أثناء الإستحمام. كما قاموا بتجريدي بصفة كاملة من الملابس وتسليط الأضواء الكاشفة عليّ مع إبقاء العصابة على العينين فقط. وللعلم نحن بقينا معصوبي العينين طوال مدة الإختفاء كلها وهي ثلاث سنوات وسبعة أشهر كاملة إلى غاية أربعة أيام فقط قبل الإفراج عنا، وكنا في ظروف جدا مأساوية، يعني ممنوع الحركة، ممنوع الكلام، ممنوع الذهاب الى المرحاض، نظرا لتواجد المرحاض بخارج الزنازن.


وأين تم اخفاؤكم قسريا ؟
علمنا لاحقا بأن المكان الذي استعملته القوات المغربية كموقع للإختفاء القسري كان على العهد الإسباني حظيرة للخنازير قبل ذبحهم، أما المكان الذي كانوا يذبحون فيه الخنازير ويأكل فيه العساكر الإسبانية فقد استعملوه كقاعة لتعذيبنا وتعليقنا والإستنطاق وإكراهنا على الإعتراف تحت التعذيب. ولقد اكتشفنا لاحقا وبعد الإفراج عنا بأن السبب وراء إبقائنا معصوبي الأعين طوال فترة الإختفاء لأن مجموعتنا كانت مخفية داخل مدينة العيون أي لم يقوموا بنقلنا الى خارج الإقليم.


ثم ماذا حدث لكم ؟
في عام 1991 وعبر ضغوط دولية من قِبل العديد من المنظمات الدولية كـ"العفو الدولية" و"فرانس ليبيرتي" تم طرح مشروع للسلام، وقعت عليه جبهة بوليساريو والحكومة المغربية والذي يهدف إلى إجراء استفتاء تقرير المصير للشعب الصحراوي لأجل ايجاد حل لهذا النزاع الطويل والمرير. وقامت اللجنة الأممية بإعداد مشروع السلام وكان من ضمن بنوده الإفراج عن المعتقلين السياسيين بحيث يتم تبادل الأسرى ما بين الحكومة المغربية وجبهة بوليساريو وكان أول خطواته هي وقف إطلاق النار ما بين الجانبين والذي تم تنفيذه فعليا بتاريخ 9 نوفمبر 1991. وللمرة الثانية قامت الحكومة المغربية باستباق الأحداث وذلك من خلال إطلاق سراحنا قبل موعد تنفيذ البنود الخاصة لمشروع السلام بأشهر قليلة، وذلك بتاريخ 19 يونيو من نفس ذلك العام 1991. وجاء هذا الإفراج المبكر بسبب إنكار شخص الملك "الحسن الثاني" ولمدة 16 عاما كاملة بأنه لديه مختفين صحراويين قسريا وذلك كلما كان يُسأل من قِبل المنظمات الدولية حول مصيرنا، وعليه تم الإفراج عنا في العتمة بدون أن يعلم عنا أحد مع غياب تام لكافة وسائل الإعلام والخبراء والمختصين والأطباء النفسيين للإستماع الى شهاداتنا. كما تم الإفراج عمن بقي منهم أحياء من المختفين من مجموعة عام 1975 والذي كان مجموعهم (324) معتقل من ضمنهم (78) إمرأة. وهذه المجموعة قضت فترة 16 عاما بالإختفاء القسري وبدت أشكالهم وقت الإفراج عنهم  بعد 16 عاما وكأنهم قد خرجوا للتو من القبور بعد أن فقدوا أربعين شهيدا خلال فترة إختفاءهم. ولقد تم نقل هذه المجموعة إلى داخل المغرب في مدينة اسمها "قلعة مجونة" و"أرديس" بشرق مدينة مراكش، بينما قضيتُ أنا ومجموعتي  أقل مدة من الإختفاء القسري وهي ثلاث سنوات وسبعة أشهر وفقدنا من بين مجموعتي أربعة شهداء.


وبعد الإفراج عنكم هل واجهتكم صعوبة في التأقلم ؟
بعد خروجنا وجدنا دعما كبيرا من عند أهلنا واحتضانا من الشعب الصحرواي، رغم أن الدولة المغربية هددت أهالينا بعدم تنظيم أي إحتفلات أو مراسم الإستقبال وإخفاء أية مظاهر للفرح وعدم معاملتنا معاملة الأبطال رغم خروجنا أحياء من هذه المحنة القاسية. لكن ورغم كل ذلك؛ لمسنا تعاطفا كبيرا وإن كان بشكل سري وبشكل داخلي بداخل بيوتنا. ولهذا أصبحت معنوياتنا عالية وقررت أنا ومجموعة من رفاقي الذين لم يصبهم انهيار حاد و قوي بمواصلة النضال وتعريف بقية أهلنا والمجتمع الدولي بما حدث لنا أثناء الإختفاء القسري، رغم أن عددنا كان قليلا لا يتجاوز العشرات، بينما فضّل البقية بالإبتعاد بعد المعاناة الذي عانوها، ولم يكونوا فاعلين، ونقدم لهم العذر، لكنهم كانوا لا يزالون مؤمنين بقضيتنا ويتعاطفون معنا ويؤازرون أنشطة المجموعة.


وكيف واصلتم نضالكم ؟
في عام 1994 سافرت إلى هولندا والتقيت بممثلة منظمة العفو الدولية المعنية بشمال أفريقيا والشرق الأوسط حينذاك، واسمها السيدة "داناتيلا"، وزوّدتها بالقوائم الخاصة التي كنت احتفظ بها، التي تشمل أسماء المختفين قسريا والشهداء، ومن جانبها عرضت عليّ السيدة "دانتيلا" منحي اللجوء السياسي في هولندا لكني رفضت وأبلغتها بأنني لابد أن أعود الى الصحراء الغربية لأن هذا واجب أخلاقي وتاريخي الذي صممت أنا ورفاقي الخوض فيه، وأن ما نحتاجه هو دعمهم لقضيتنا، وفعلا عدت الى الإقليم بعد انقضاء شهر واحد فقط من العلاج وزيارة والدي.


وهل تكللت مساعيك بالنجاح ؟
نعم قليلا؛ حيث بدأنا في عام 1994 بتنظيم أنفسنا عبر تأسيس لجنة بإسم (لجنة التنسيق المنتدبة عن المختطفين الصحراويين المفرج عنهم في عام 1991) وقامت السلطات المغربية بوضع مؤسسي هذه اللجنة وكان عددنا (12) شخصا وأنا من ضمنهم تحت الإقامة الجبرية، بل وفُرض على هذه المجموعة التوجه يوميا الى مراكز الشرطة للتوقيع بأنهم لا يمارسون أية أنشطة سياسية، وكان ذلك حتى عام 1998 عندها تسلل عدد من مؤسسي اللجنة من الصحراء الغربية الى الرباط عاصمة المغرب. ومن الرباط بدأ رفاقي بالتواصل مع مكاتب المنظمات الدولية وعرضوا عليهم الملفات الخاصة للإنتهاكات الجسيمة التي وقعت ضد الشعب الصحراوي كما قدموا دعوات مفتوحة لأعضاء هذه المنظمات سواء كانوا مستشارين أو سياسيين أو حقوقيين لزيارة الإقليم لأجل الوقوف عن قرب بحجم المعاناة الذي يتكبدها الصحراويون والإستماع المباشر الى شهادات الضحايا وأسرهم. وفعلا أصبحت هناك زيارات متكررة من قِبلهم كما قمنا بالتواصل مع إخوتنا المغاربة من الإعلاميين والنشطاء من خلال منظماتهم الحقوقية وهم في الواقع لم يكونوا يعلمون شيئا عن هذا الوجه البشع والقبيح والحقائق المزيفة من وراء احتلال الدولة المغربية للصحراء الغربية. وتلك الجهود أكسبتنا مناصرين جددا من خارج الإقليم، ولمسنا تعاطفا من قبلهم بل وأصبح بعض الصحفيين المغاربة يكتبون المقالات المؤيدة لقضيتنا، لكننا من هنا بدأنا بخوض معارك وتحديات جديدة.


أي نوع من المعارك تقصدين؟
دخلنا في معارك اعلامية واسعة لكي تتقبل جميع وسائل الإعلام بالإعتراف بنا وتسميتنا بسكان  الصحراء الغربية، لأنه لم يكن يسمح لهم سوى استخدام اسم "الصحراء المغربية" فنحن الصحراويين لا نعترف بمغربية الصحراء. وبعد جدال طويل انتقلنا للمرحلة الثانية، وبدأت وسائل الإعلام بوصفنا بسكان الصحراء فقط دون أي تحديد، وتلقّب الإقليم بالمناطق الصحراوية. أما اليوم ستجد  قلة من وسائل الإعلام وبعض أصحاب الأقلام الجريئة التي قررت تسميتنا بسكان الصحراء الغربية.


وماهي خططكم المستقبلية ؟
بدأنا منذ بداية عام 2000 بالتنسيق مع المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف الذي أسسه المعتقلون السياسيون المغاربة في عام 1998، وعملنا معهم كوننا أيضا من ضمن معتقلي المغرب ونحن اليوم لا نزال بإنتظار إستخراج ترخيص بتأسيس جمعية صحراوية التي ستضم كل التفاصيل التي تعود خلفيتها للنزاع السياسي في الصحراء الغربية لأننا من ناحية الخلفية السياسية للنزاع نختلف مع الإخوة المغاربة. ومن هذا المنطلق قام في عام 2005 ضحايا مجهولي المصير الأحياء وأسر ممن لا يزالوا مجهولي المصير وأسر الشهداء في المخابئ السرية بتأسيس الجمعية الصحراوية لضحايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة من طرف الدولة المغربية (ASVDH) والتي تأسست تحت القانون المغربي. علما بأن المؤتمر التأسيسي لهذه الجمعية شهد حضور أكثر من (200) شخص يمثلون الأقاليم المختلفة لإقليم الصحراء الغربية، وأنا أكون نائبة للرئيس في هذه الجمعية.


 وما هو وضع السكان الصحراويين اليوم ؟
حياتنا اليوم على مستوى التعليم ضعيف جدا، ونعاني من الفقر وتفشي الفساد الأخلاقي كالدعارة وتعاطي المخدرات وشرب الكحول، كما نواجه مشاكل اجتماعية جمة.


وهل استقرت أحوالك الآن؟
لا بل تعرضتُ للكثير من المضايقات الأمنية، فقد تم مداهمة منزلي لعدة مرات، وكانت هناك محاولة لإختطاف ابنتي عندما كانت في العاشرة من عمرها، ورفعت العديد من الشكاوي لكنها تم اهمالها جميعها.



ومتى تنوي "الغالية دجيمي" بالتوقف عن هذا النضال المرير؟ ألا تشعرين بأن السنين قد أنهكتك ؟؟
أنا إمرأة أناضل من أجل رفع الظلم والقناع عن الآلآف من أبناء شعبي وأسعى الى لفت الإنتباه الوطني والدولي لقضيتنا، وهذا هو المسار الذي سلكته منذ سنوات شبابي  الأولى، ولن أتوقف عن هذا النضال ما حييت.

انتهى.

أجرت الحوار "حبيبة الهنائي"
أثناء المشاركة في ملتقى "الخط الأمامي السابع للمدافعين عن حقوق الإنسان".
دبلن – أيرلندا / 10 اكتوبر 2013


هنا الرابط للحوار في مجلة الفلق الإلكترونية:
http://alfalq.com/?p=5966


هنا الرابط للموقع الرسمي للجمعية الصحراوية لضحايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان: http://trabna.net/ar/?p=2019


الأحد، 27 أكتوبر 2013

العادات والتقاليد المسكوت عنها (1)


في الحقيقة اصبت بالحيرة من أين أبدأ بكتابة هذا المقال! فعندما قررت البدء بعمل إستبانة لإستطلاع الرأي حول ظاهرة ختان البنات، لم يتملكني أي حماس في هذا الشأن، وذلك بسبب جهلي التام عن هذه القضية، كوني قد تربيت في بيئة لا تختن بناتها. وبالمناسبة؛ فأنا لم أكن أعلم اطلاقا وحتى قبل سنوات قليلة بأنه هناك نساء وفتيات يتم بالفعل ختانهن في عُمان، لأن هذا النوع من النقاش لم يتصادف وأن مر على مسامعي من قبل؛ لذا فقد كان من الطبيعي أن أفتح ملء فمي لإصابتي بالدهشة وأنا أبلحق بإستغراب بمن كانت السبب بإيصال تلك المعلومة الصادمة بالنسبة لي ولأول مرة.


لذا فسوف أتجنب إبداء رأيي الشخصي حول هذه الظاهرة لحين نشر نتيجة الدراسة التي أجريها حاليا حول ختان البنات، ولن أخفي عليكم سرا بأني وبعد جمعي لعدد لا بأس منه من الآراء ارتفعت عندي نسبة الأدرينالين وزاد النشاط والحماس في البحث والتقصي لمعرفة المزيد حول هذه القضية؛ وذلك بسبب التناقض الكبير الذي لمسته والتضارب اللافت في الآراء مابين مختلف فئات المجتمع الواحد المتعايش تحت سماء واحدة! مما جعلني أتجرد بالإعتماد على  وسائل التواصل الإجتماعي كالفيسبوك و الواتساب كمصدر وحيد للحصول على المعلومة عند تعبئة الإستبانة، لأنه هنا تتحول العلاقة ما بين الباحث والمشارك الى علاقة فاترة وجافة للغاية؛ بينما قضية كهذه تتطلب الخروج الى الميدان للإلتقاء وجها بوجه مع أكبر شريحة ممكنة من النساء لأجل الإستماع اليهن عن قرب ولمس ردود أفعالهن ومراقبة تعابير أوجههن ومحاولة إكتشاف معتقداتهن لأن قضية ختان البنات هي أكبر مما تصورت !


توجهت في مساء يوم الجمعة الماضي وذلك خلال أجازة نهاية آخر الأسبوع الى مركز (اللولو) التجاري ببوشر معتقدة بأنني سأحصد أكبر عدد ممكن من العُمانيات هناك وهن يتسوقن. و بدأت بالبحث ما بين ممرات المركز المكتظة بالوجوه الآسيوية عن وجوه عُمانية ولكن، دون جدوى، فقد بدوا ليلتها كالعملة النادرة! وتنقلت من ممر الى آخر فكلما أوقفت سيدة بدت لي من خلال ملامحها بأنها عُمانية أكتشف لاحقا بأنها عربية مقيمة، فأغلبيتهن يرتدين ذات العباءة السوداء، لدرجة انه أصبح أمر تمييزهن صعبة للغاية.


 أصبت بشيء من خيبة الأمل، لكنني قررت البقاء قليلا لكي لا أضيع المشوار هدرا، ومع مرور الوقت، نجحت بالتحدث مع (12) إمرأة وذلك قبل الإصطدام بمسؤول أسيوي للمركز؛ والذي بدا لي بأنه كان يراقبني عن بعد أثناء محاورتي للنساء، وربما توهم بأنني قد أكون أحد مفتشي الهيئة العامة لحماية المستهلك أو قادمة من مركز منافس وأحاول سرقة زبائنهم !

وسألني بنبرة انجليزية جادة: ماذا تفعلين هنا ؟ فأجبته: أجري استطلاع للرأي مع النساء العُمانيات؟ وألقى نظرة الى الجدول الذي بيدي وبعد ان عجز بقراءة محتواه الذي كان باللغة العربية، قال لي: وعن ماذا هذه الدراسة ؟ قلت له: عن قضية تتعلق بالمرأة العُمانية، فقال: لا يسمح لك بالقيام بهذا هنا دون الحصول على إذن من إدارة المركز، لذا أدعوك بالرحيل حالا! أجبته: حسنا حسنا ابقى هادئا وسوف أرحل الآن.


خرجت من المركز وكانت الساعة تشير الى التاسعة مساء فتوجهت الى مركز السفير للتسوق بالعذيبة، وللمرة الثانية لم أكن محظوظة، فلقد كان المركز تحت الصيانة ويكاد يخلو من البشر، ولم ألتقي سوى بإمرأتين هناك. وهنا بدأ ابني بالتذمر بسبب كونه جائعا، فتوجهنا الى  مطعم الـ (مكدونالدز) فرع العذيبة لكي يتعشى هناك، واستغليت وجودي في المكان بالحوار مع (5) نساء وأخذ آراءهن.


وفي صباح يوم السبت، قررت التوجه الى المستشفى السلطاني، حيث سأجد هناك عدد كبير من الزوار للمرضى، بحيث يأتي بعضهم من مختلف المناطق  البعيدة من عُمان. ولكنه كان يوم إجازة، وكانت عيادات العلاج والمراجعة مغلقة وهادئة، ورغم ذلك نجحت بتعبئة (9) بيانات من بين زوار المرضى. وقررت العودة في صباح الأحد حيث تكون العيادات نشطة وبالتالي سوف أتمكن بإنهاء مهمتي هناك، وفعلا فقد كنت يومها محظوظة بالإلتقاء والدردشة مع عدد كبير جدا من النساء القادمات من مختلف المناطق ومن مختلف الأعمار، وهنا أتممت الجزء الأول من مهمتي في  جمع البيانات والإنتقال الى المرحلة الثانية وهي تفريغها والتحليل.

يُتبع

السبت، 26 أكتوبر 2013

من الذي انتصر ؟




جرانج ماوث (Grangemouth) هو اسم لمصفاة النفط التي تعتبر العمود الفقري لاقتصاد اسكوتلاندا، وأيضا تحوي على مصنعا هاما للبتروكيماويات. يعمل في المصنع حوالي (800) عامل باﻹضافة الى تعاقدها مع آلاف المقاولين. لكن اليوم يواجه المصنع تحديات مالية جمة بسبب سوء أداء اﻹقتصاد العالمي مما اضطرت إدارتها خلال اﻷيام القليلة الماضية إلى وضع خطة إنقاذ لكي لا يتم إغلاق المصنع. شملت خطة اﻹنقاذ تغييرات في بنود عقود العمل ومن بينها تجميد الرواتب، الذي يعني وقف الزيادات خلال السنوات القليلة القادمة، اﻷمر الذي يؤثر سلبا وبشكل مباشر في مستحقات تقاعد العمال.

وخلال الأسبوع الماضي عرضت إدارة المصنع بنود (خطة الإنقاذ) للعمال والتي قوبلت برفض شديد من قِبل العمال وبتهديد مباشر من نقابة العمال بالإعلان عن الإضراب عن العمل. وبعد مفاوضات مكثفة ما بين إدارة المصنع وقيادات العمال التي وصلت جميعها الى نتيجة لم ترضي أي من الطرفين،  تم عرض المصنع للبيع وأعلنت إدارة المصنع أنه في حال فشلهم بإيجاد مشتر لها في غضون أيام فإنها ستضطر آسفة لإغلاق المصنع، مما سيؤدي الى تسريح جميع العمال. وبعد إنتهاء المدة المحددة مع عدم ظهور مشتري للمصنع تفاجأ الجميع بإعلان الإدارة الرسمي بخبر الإغلاق وتم تسريح جميع العمال الـ (800) بالإضافة الى تسريح أكثر من (2000) مقاول مما سيؤدي الى تفاقم البطالة والى ظهور أزمة إقتصادية واجتماعية جديدة في اسكوتلندا.


هز هذا اﻹعلان العمال والمقاولين في زمن يصعب فيه الحصول على وظيفة أيا كانت نوعها، وعاد ممثلو العمال مجددا إلى طاولة المفاوضات مع إدارة المصنع لأجل الوصول الى إتفاق وحل مقبول لإنقاذ المصنع كونه المصدر لأرزاقهم. رضخ العمال لشروط (خطة اﻹنقاذ) للمصنع وبنودها، باﻹضافة إلى بند لم يكن موجودا سابقا ، وهو التعهد  بأن لا يُضرب العمال عن العمل خلال الثلاث سنوات القادمة. أتفق الطرفان وأعيد فتح المصنع صباح اليوم وسط فرحة وابتهاج العمال والمقاولين بعودتهم إلى وظائفهم.

هنا الرابط للخبر:

الأحد، 20 أكتوبر 2013

الإستدعاء الناعم


الإثنين 8 ابريل 2013
الساعة (08:15) صباحا


"حافظ .. يا حافظ انهض يا ماما .. أنا ذاهبة الآن" ، كان حافظ يغط في نومه وهو يختم آخر يوم له من إجازة الربيع المدرسية. همستُ في أذنه بصوت خافت: سأترك لك هاتفي النقال هنا ولا تنسى ما قلته لك مساء الأمس بعدم الرد على أي متصل باستثناء لو كان أحد أفراد الأسرة". فتح حافظ عينيه بتثاقل وكسل شديد، و أخذ يتأملني كالتائه وكأنه قد عاد للتو من عالم بعيد بعيد، وحرك جسده بخمول، وبعد تركيز طفيف بدا لي وكأنه قد نجح  في إستعادة محادثتنا معا التي جرت مساء الأمس، وربما تذكّر وصيّتي له بأن يكون قويا وأن لا يقلق في حال لم أعد من القسم الخاص الذي سأتوجه إليه الآن، بعد أن تلقيت مكالمة هاتفية بالأمس واستدعائي للذهاب اليهم صباح اليوم للتحقيق. وبحركة فجائية نهض من فراشه وتحدث معي وكأننا لا زلنا نكمل حوارنا منذ مساء الأمس: نعم يا ماما فهمت سأستيقظ الآن لكي أودعك. فخرج من سريره واحتضنني وهو يدعّي الجَلد والتماسك وكأنه حَدثٌ عابر وعادي وقبّلته على جبينه ثم قلت له: لا تنسى أن تأخذ حقيبة يدي إلى منزل خالتي، وابق هناك في حال لم أعد، فغداً لديك مدرسة ولقد رتبتُ لك كل مستلزماتك المدرسية التي ستحتاجها.


سحبت حقيبتي بعد أن وضعت فيها بعض احتياجاتي الضرورية التي قد أحتاجها لعدة أيام في حال تم احتجازي هناك، ووضعت جواز سفري مع بطاقتي الشخصية في حقيبة منفصلة تنفيذا لأوامرهم بإصطحاب أوراقي الثبوتية معي، وقمت بتفريغ كل ما في محفظتي من نقود (12 ريال)، ووجدت بعض الكتب على الطاولة، اثنان منهما سلمني إياهما الكاتب والباحث سعيد الهاشمي مساء الأمس في جلسة "القراءة نور وبصيرة" التي احتفت بالكاتب "سليمان المعمري" وبرنامجه الإذاعي (كتاب أعجبني).


وضعت الكتابين مع اثنين آخرين في حقيبتي مع علبة صغيرة تحتوي على حبوب للغدة الدرقية، وبعد فتحها وجدت أن الكمية المتبقية لن تكفيني سوى لعدة أيام قليلة، وتذكرت ما حدث خلال فترة اعتقالي بالصيف الماضي وبالتحديد بتاريخ 31 مايو 2012 بمنطقة إمتياز بصحراء فهود مع زميلين أخرين وهما الناشط "إسماعيل المقبالي" والمحامي "يعقوب الخروصي"، وذلك أثناء تغطيتنا لإضراب عمال النفط، وكيف أني لم أكن أحمل دوائي معي مما أضطر مكتب جهاز الأمن الداخلي بنقلي إلى مستشفى الشرطة للمراجعة، وذلك لأجل إعتماد طبيب مختص لحالتي الصحية ووصف الحبوب لي بعد الإنقطاع عن أخذها لفترة ثلاثة أيام كاملة. سحبت حقيبتي التي كانت رفيقتي لكثير من سفراتي إلى خارج البلاد وتوجهت ناحية عتبة الباب لكن هذه المرة لم أكن أجرها بلهفة وقلق خوفا من أن تفوتني الطائرة، بل كنت أجرها بتثاقل شديد وكان ينتابني إحساس طفلِ في سنته الأولى من المرحلة الإبتدائية لحظة نقله رغما عنه بعيدا عن أسرته التي يحبها للإقامة في سكن داخلي يمقته.


اقتربت من سيارتي وفتح "حافظ" نافذة البيت ولوّح لي بيده بحركة بطيئة من مكانه وبدت تعابير القلق جلية بمحياه، فهذه ليست المرة الأولى التي يضطر فيها بمواجهة مثل هكذا موقف عصيب. حملت حقيبتي ووضعتها بداخل السيارة ورميت له بقبلة في الهواء، وفعل هو بالمثل ولوّح لي مرة أخرى وأنا أخرج بسيارتي مودّعا. وبدوت حينها كالمسافر الوافد لحظة ترحيله رغما عنه عائدا الى بلاده، وهو لا يعلم بأي وجه يقابل به والدته المريضة وصغاره الجوعى وهو عائد إليهم وجيوبُه خاوية، كيف لا وحقيبتي بجواري وجواز سفري بحوزتي !


توقفت بأقرب صيدلية وأخذت علبة جديدة من حبوب (الثايروكسين) الخاصة بمرضى الغدة الدرقية ومن ثم توجهت ناحية منطقة القرم .. كانت الرؤية ضبابية بسبب عاصفة من الغبار التي عبرت الأجواء قبله بيوم واحد، صاحبها رذاذ خفيف. تأملت ساعتي التي تجاوزت الثامنة والنصف صباحا وقلت في سري " لا بأس لو تأخرت قليلا لأني أتوقع الإنتظار هناك طويلا قبل البدء في التحقيق". انحرفت يمينا عن طريق جسر (القرم - دارسيت) ونزلت إلى دوار حديقة القرم الطبيعية، وكان البال لا يزال مشغولا ومشتتا. تذكرت كيف أنني مساء الأمس نسيت المفتاح مع الإضاءة والمذياع مفتوحا داخل السيارة، بعد أن نزلت مع "حافظ" منها وتوجهنا إلى جلسة "القراءة .. نور وبصيرة" وبقيت هناك لفترة تزيد عن الساعة والنصف، وبعد إنتهاء الجلسة بحثت عن مفتاح السيارة طويلا إلى أن انتبه "حافظ" بعد وهلة بأنه لا يزال مشغول بداخل السيارة، وهذه سابقة لم تحدث معي من قبل! عندها أفقت من سرحاني ووجدت نفسي ألّف في الدوار وأتجه ناحية حديقة القرم الطبيعية بدلا من أن أنعطف بإتجاه اليمين حيث مقر القيادة العامة للشرطة، تأملت أمامي من سماء حديقة القرم الطبيعية الى ذلك المجسم الدائري الضخم للعبة الكراسي المعلقة وبدا لي حجمه بنفس حجم دوار القرم الضخم الواقع تحت الجسر المؤدي الى منطقة دار سيت. أكملت الدوران 360 درجة وعدت الى المسار الصحيح وفجأة وجدت نفسي أسوق في ذلك الشارع القصير الذي يفصل منطقة القرم بجهتين متناقضتين تماما. فهناك من ناحية اليسار موقع سوق القرم أو بما يُعرف بمنطقة سابكو بمحلاتها الزاهية ومجوهراتها الثمينة والذهب الأصفر البراق الذي يتدلى عبر نوافذها السميكة المانعة للرصاص ومقاهيها المكتظة بالناس بحيث تعلو ضحكات مرتاديها حتى تصل الى جهة اليمين من الشارع وهو مقر القيادة العامة للشرطة بسجونها السرية الضيقة ذات الإضاءة القوية وبمكبرات صوتها العالية وبتكييفها المتجمد وغرف تحقيقها الزرقاء، والموقوفين داخل زنازينها الصغيرة بحيث تعجز أصوات أنينهم اختراق جدرانها السميكة المانعة للصوت أيضا!


اقتربت من البوابة الأمنية فأبطأت السرعة، و أنزلت زجاج النافذة وألقيت تحية لشرطي البوابة:

-        السلام عليكم، اسمي حبيبة الهنائي لدي الآن موعد بالقسم الخاص

-        هل تِندَلّين المكان؟

-        نعم أندلّه

-        طيب تفضلي

لم أتوقع السماح لي بالدخول هكذا و بكل سهولة، انعطفت بإتجاه يسار البوابة فوجدتُ جميع مواقف السيارات محجوزة فركنت سيارتي على رصيف مرتفع وحينها اتصلت بالزميل مختار الهنائي: "مرحبا سأدخل الآن وسوف أغلق هذا الهاتف .. مع السلامة". أغلقت الهاتف وتركته جانبا ثم نزلت من السيارة وتركت الحقيبة الخاصة بمستلزماتي الشخصية هناك. توجهت ناحية بوابة القسم الخاص، لمحت عن بعد ثلاث رجال يتحدثون خارج المدخل ويقهقهون، وعندما اقتربت منهم رددت: السلام عليكم. فنظروا ناحيتي وهم يجيبون: وعليكم السلام. يا الهي احدهم كان ذلك الضابط الذي اعتقلنا في صحراء فهود بشنبه الكثيف، والذي قام بأخذ بياناتي وتصويري أمام سيارتي وتكرار طلبه الغريب بينما هو يصورني بأن أمسك بيدٍ البيانات التي أخذتها من عند عمال النفط وباليد الأخرى أن أشير بأصبعي الإبهام بإشارة الإعجاب، ولم أفهم حتى الآن المغزى من وراء تصويري بذلك الشكل المهين! تأملني بعض الشئ بينما كنت أمشي بإتجاه مدخل المبنى ذات الباب الدائري، وحينها شعرت بإنزعاج فانتابني إحساس قوي بأن تواجده هناك لم يكن مصادفة، إنما لأجل استلامي ونقلي للسجن! توجهت الى موظف الإستقبال وأبلغته بإسمي وبأنه تم استدعائي وطلب مني التوجه الى قاعة الإنتظار.


جلست بداخل المكتب الخالي واخترت مقعدا مواجهاً لمدخل الباب وكانت الساعة تشير الى التاسعة الا ربع صباحا. فتحت حقيبتي وكانت بها اربع كتب: رواية "الذي لا يحب جمال عبد الناصر" لـ "سليمان المعمري" و قصص "الإشارة برتقالية الآن" لـ "هدى حمد" و قصائد "موسيقى الشمس أغاني الجنة" لـ "إبراهيم سعيد" و قصص "ما لاذ بالحلم" لـ "ناصر صالح". فقلت في سري أريد كتابا مبهجا لكي يخرجني من حالة التوتر التي تنتابني الآن و يخفف عني الشعور بالقلق، حسنا سأقرأ قصائد الشاعر "إبراهيم سعيد". أخرجت الكتاب الذي سلمني اياه الكاتب سعيد الهاشمي بمساء الأمس أثناء جلسة القراءة الثقافية وفتحت الغلاف فوجدت إهداء من الشاعر "إبراهيم سعيد":

إلى حبيبة الهنائي
مع كل الود
أتمنى أن يعجبك اللحن والكلمات.
مع الوداد
إبراهيم سعيد



حسنا ربما هذا الكتاب سوف يرفه عني قليلا. قلبت الصفحات الأولى .. الجزء الأول: (موسيقـى الشمـس .. كتاب الصباح) ومن ثم قرأت عنوان القصيدة الأولى: (لســان الصبــاح) .. تبسمت قليلا وتمتمت: ويا له من صباح!
وبدأت بقراءة قصيدة "لسان الصباح" وتوقفت هنا:

صباحٌ يا قلبَ النخلة إني أسمعك،
صباحٌ يا قلبَ الشمسِ إنّي أراك،
صباحٌ يا طرف خدّ الزمن إنّي أُقبِّلُك.


تمعنت في القراءة لوهلة ، حتى بدأ شيء من النعاس يتسلل الى عينّي، تأملت ساعة المكتب وجدتها متجمدة عند الساعة التاسعة وأربعين دقيقة، فنظرت الى ساعتي التي كانت تقترب من العاشرة صباحا، خلعت نظارة القراءة وركنتها جانبا، أغلقت الكتاب ووقفت قليلا وبدأت بفرد يدي، ومشيتُ داخل المكتب ذهابا وإيابا لفترة ما حتى شعرت بالإنتعاش. عدت الى الجلوس بنفس تلك الزاوية من المقعد المواجه لباب المكتب ثم بدأت بمواصلة القراءة:

جئت بصدماتٍ كهربائية في أسلاك الكلمات كي تبكي العيون
من شدة الأمل، ويتزايد المفتونون المصابونَ بزارِ السعادة،
حتى يتكاثر المدنفون في العشق الذين ينثنون من آلآم الحب المبرحة.


وفجأة فُتح الباب وقيل لي: تفضلي.



حبيبة الهنائي

الأحد، 6 أكتوبر 2013

إليان غونزاليس.. قصة طفل .. هروب وقضية


Elian Gonzales

الطفل الذي أشغل الرأي العام  العالمي



" إليان و جوان ماغويل غونزاليس .. إبن وأبيه .. الأول طفل برئ .. والثاني أبٌ أختطف منه ابنه .. إليان تصرف كأي طفل في السادسة من عمره .. وجوان ماغويل تصرف كأي أب .. و السياسيون تصرفوا كالحمقى "

ريتشارد كوهين – ذا واشنطن بوست ، ابريل 2000



تحولت حياة "إليان غونزاليس" الفتى الكوبي الصغير الذي ولد في عام 1993 إلى محطة أنظار العالم بل وحازت بمتابعة سياسية ودولية عالية المستوى وهو لم يتجاوز السادسة من عمره آنذاك. وبدأت نقطة التحول تلك في كوبا عندما اتخذت والدة إليان التي كانت قد انفصلت عن زوجها قرار مصيري وهو الهروب من كوبا بحرا والعبور إلى شاطئ ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن الحلم الأمريكي والحياة الكريمة لها ولابنها إليان.


إنه ذلك الحلم الأمريكي الذي يُروّج له بأنه: "The Land of Opportunities" أو انها أرض الفرص وتحقيق الأحلام. ذلك الحلم الذي يعشعش في مخيلة كل مواطن كوبي فار من بلده لحظة وطأة أقدامه على مياه شواطئ ميامي الساحرة. يحلم بتلك الامتيازات الموعودة كحق الإقامة والعمل والتعليم والرعاية الصحية وغيرها. وهي أحلام كفيلة بدغدغة مشاعر الكوبيين الفقراء والمنكوبين وتناسي مغبة ركوب البحر الهائج، والمغامرة بأرواحهم وأرواح أطفالهم وأحبائهم.


ذلك القانون الأمريكي " الرحيم " وربما " اللئيم " بالكوبيين والذي وصفته الحكومة الكوبية بــ " قانون الموت "  فبسببه يغامر المواطن الكوبي ويعرض حياته وأسرته للهلاك والموت غرقا بصرف النظر عن نجاة البعض منهم أو انتشال البعض الآخر هنا وهناك ونقلهم إلى معسكرات خاصة باللاجئين. وكل ذلك من أجل لمس أقدامهم شواطيء ميامي الساحرة والذي سيفتح لهم أبواب الفرص وحق الإقامة، بينما يصب أنظار العالم على ضحايا هذا القانون ممن غرقوا رجالا ونساء وأطفالا بحثا عن الحلم الأمريكي.


عندما دقت الساعة الرابعة مساءا من تاريخ 21 نوفمبر 1999م تحرك مركب شراعي بسيط مصنوع من الألمنيوم من احدى شواطئ كوبا وكان يحمل على متنه إليان ووالدته واثنا عشر راكبا آخرين متجهين إلى مصير مجهول. لكن الطقس لم يكن رحيما بهم فحدث عطل بالماكينة المهترئة مما تسبب بتحطم المركب القديم وهم بوسط البحر، بوسط خليج المكسيك.


أفاق إليان من سباته ووجد نفسه وحيدا في وسط البحر عائما داخل قارب نفخ ، وخشي الصغير من احتمال فقده لوالدته وانه لن يرها مرة أخرى ليقينه بأنها لا تجيد السباحة ، وفي الحقيقة لم يخطأ حدسه فقد ماتت فعلا والدته غرقا ولم ينج معه من الحادثة سوى رجلان تفرقا بعد وقوع الحادث. ظل إليان لساعات طويلة وحيدا فزعا وهو على متن قارب النفخ قبل أن يلمحه أحد زوارق الصيد القريبة من شواطئ ميامي الذي قام بإنقاذه. ولم يستغرق الوقت طويلا حتى احتل خبر نجاته عناوين جميع وسائل الإعلام المحلية والدولية، وبعد أن تأكد فريق طبي من سلامة إليان الصحية تم تسليمه إلى أقرباءه في ميامي للاعتناء به حتى يتم تحديد موعد لإعادته إلى والده في كوبا، والذي صرح من جانبه عن جهله التام بنيّة طليقته بأخذ إليان وتهريبه معها الى أمريكا.


ومن هنا أثيرت بين الدولتين كوبا وأمريكا ضجة إعلامية واسعة حول قضية إليان وحازت على متابعة كبيرة على المستوين السياسي والشعبي وأنقسم الشارع ما بين المؤيد لبقائه بالولايات المتحدة الأمريكية ومنحه حق الإقامة والجنسية وما بين المعارض المطالب بعودته إلى حضن أبيه في كوبا. وبدأت أبناء الجالية الكوبية في ميامي بتنظيم سلسلة من المظاهرات التي تطالب السلطات الأمريكية بعدم إعادة الطفل إلى كوبا وبينما في الجانب الآخر من كوبا تم تنظيم مظاهرات شعبية ضخمة المطالبة بعودة إليان إلى وطنه. وهذا الاهتمام المنقطع النظير بقضية إليان والمتابعة الواسعة أثار طمع أقرباءه في ميامي وبرزت نواياهم السيئة وهي التمسك بحضانة إليان لأجل كسب الشهرة وحصد الأموال، وأصبح إليان في نظر أقرباءه الدجاجة التي ستبيض لهم ذهبا!


وفي يناير من عام 2000 تم تكليف جدتا إليان بمهمة رسمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمطالبة بعودته الى كوبا لكن باءت مساعيهما بالفشل وعادت الجدتان أدراجهما بدونه. وبذات الوقت باءت مساعي الجمهوريين بالفشل بجمع أصوات كافية لإستثناء  إليان ومنحه الجنسية الأمريكية.


و قضية إليان غونزاليس تجاوزت كونها مجرد قضية عائلية فقد فرضت نفسها على الإنتخابات بولاية ميامي وعلى مرشحيها ولقد أجبر المرشح (آل جور) بإعطاء تصريحات والإعلان عن موقفه حولها ومن خلاله سيقرر الناخبون بإمكانية منحه أصواتهم أم لا. كما صرح وزير الخارجية الإسباني بضرورة عودة إليان الى كوبا واحترام اللوائح والمواثيق الدولية. ومن ناحية أخرى قدم جوان ماغويل غونزاليس والد إليان جملة من الرسائل الرسمية الى الحكومة الأمريكية يطالب فيها بعودة ابنه الى كوبا ثم قام بنشرها في وسائل الإعلام، كما أعلن عن رفضه لعرض أقرباءه في ميامي بالتنازل عن المطالبة بالحضانة مقابل توفير منزل وسيارة له للإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية.


وفي شهر مارس من عام 2000 رفضت المحكمة الأمريكية النظر في طلب اللجوء السياسي الذي تقدم به أقرباء إليان له ، وفي محاولات يائسة بث أقرباء إليان لقطات فيديو يظهر فيه إليان وهو يترجى والده بالموافقة على بقاءه مع أقرباءه في ميامي. و بدا توجيه إليان بالكلام في مقطع الفيديو واضحا، ولقد أكد إليان ذلك لاحقا وصرح في مقابلة صحفية بأن أقرباءه كانوا يسمعونه كلام يسئ لوالده، ولقد قاموا بتوجيهه بأن يصرح برغبته في البقاء معهم. وحاول أقرباءه المماطلة للحصول على مزيد من الوقت لغرض رفع طلب للتبني وهددوا بإيذاء أي شخص يحاول دخول المنزل لاستعادة إليان مما دعت السلطات الأمريكية بالإستعانة بعدد من اللاجئين الكوبيين المسلحين.


وبعد صدور الحكم بإعادة الطفل إلى كوبا رفض أقرباءه تسليمه إلى السلطات الأمريكية وقامت مجموعة من رجال الشرطة المسلحين بمحاصرة المنزل الذي يقيم فيه الطفل ، وبعد محاولات يائسة بالتفاوض مع أقرباءه لتسليمه اقتحمت الشرطة المنزل وتم أخذه بالقوة في حادثة تم انتقادها بشدة خوفا على سلامة الطفل إليان. في اليوم التالي من حادثة المداهمة المشهورة تلك قام البيت الأبيض بنشر صور من قاعدة جوية أمريكية لــ إليان وهو سعيد في حضن والده الذي تم احضاره خصيصا من كوبا لإستلام ابنه ومن ثم تم إعادتهما الى بلدهم.


أقيمت في كوبا احتفالات شعبية واسعة احتفاءا بعودة إليان ولقد استقبله شخصيا الرئيس فيدرال كاسترو ولاحقا وصف إليان الرئيس كاسترو بأنه صديقه وبمقام والده. ولا يزال الرئيس الكوبي ملتزم حتى يومنا هذا بحضور جميع حفلات أعياد الميلاد لــ إليان. وعندما كان مريضا أرسل أخاه للحضور بالنيابة عنه، كما تم تخصيص ركن خاص بالمتحف الوطني الكوبي لعرض قضية إليان.

اليوم أصبح إليان شابا في العشرين من عمره كما أصبح أحد رموز كوبا أما والده فيعمل نادلا في مطعم ايطالي ولقد قامت الحكومة الكوبية بوضع وحدة مراقبة بجوار المطعم لحمايته هو وأسرته.


أرجو أن تكونوا قد استمعتم بقراءة ملخص سريع لهذه القصة المثيرة للجدل وأسئلتي كالآتي:

• ما هو تقييمكم للموقف الأمريكي حول هذه القضيـة؟

• برأيكم ما هو مستقبل إليان أو ماذا يفترض أن يكون؟




حبيبة  الهنائي


تم نشر هذا الموضوع بمنتدى الحارة العمانية بتاريخ : 25/11/2009

الرابط للموضوع: