نقوشٌ على جدار واسعٍ

السبت، 23 يناير 2016

ذكرياتي المدرسية بعد مضي ثلاثين عاما على الثانوية العامة الجزء -1


الجزء (4-1)

السبب الذي حفزني إلى كتابة هذه اليوميات وإستعادة شريط ذكرياتي القديمة يعود إلى معايشتي هذه الأيام لإختبارات الدبلوم العام (الثانوية العامة سابقا) للفصل الدراسي الأول للعام الدراسي 2015/2016م التي يخوضها إبني حافظ ومتابعتي له عن قرب منذ  بدايتها بتاريخ 10 يناير حتى إنتهائها بتاريخ 24 يناير 2016م. إن عودة تلك الذكريات مجددا أشعرتني أن ذات السيناريو بدا وكأنه يتكرر أمام عيناي من جديد رغم مرور ثلاثين عاما منذ إنهائي لإختبارات الثانوية العامة التي كانت في صيف عام 1985م. وبالتالي فقد كان من الطبيعي أن تفرض تلك الذكريات نفسها وتدفعني لعمل مقارنة بين ماكان يحدث في الماضي وبما طرأ اليوم من مستجدات و متغيرات خلال ثلاثة عقود مضت من الزمان.


إذن في منتصف الثمانينات أنهيت دراسة الثانوية العامة أو بما يُعرف اليوم بالصف الثاني عشر وأيضا بشهادة الدبلوم العام؛ وأتذكر جيدا حينذاك كيف أني فقدت وقتها معظم وزني وبدا جسدي الهزيل أشبه بالهيكل العظمي. ولم يحدث هذا بسبب إتباعي برنامجا صارما لحمية قد تلجأ اليها أي فتاة مراهقة تبحث عن الجسم الممشوق؛ إنما بسبب إنهماكي بالمذاكرة والإستعداد لإختبارات مرحلة الثانوية العامة بعدما كنت أقضي أيامي الأخيرة داخل البيت أمشي وأمشي لمسافات طويلة ربما لو حسبناها قد تضاهي عشرات الكيلومترات. ويرجع هذا بسبب معاناتي من الصعوبة والبطء في الحفظ؛ ولهذا أضطر باللجوء إلى المشي وقطع كل تلك المسافات الطويلة داخل البيت في محاولة جادة بتحفيز جمجتي لتخزن في ذاكرتي ما يمكن حفظه من بين كل تلك المواد المتراكمة والمفترض علينا حفظها جميعها. نعم؛ لقد عشت في ذلك الزمان عندما كنا نجبر بمذاكرة كل المنهج دفعة واحدة من المواد التي درسناها خلال تسعة أشهر كاملة من السنة الدراسية، أي من شهر سبتمبر إلى شهر مايو، فقط لكي يتحدد مصيرنا خلال فترة إمتحان لا تتجاوز ساعات قليلة! أجل لقد كان ذلك قدرنا أننا جئنا في وقت صعب ومن جيل صعب وفي زمن لم يكن يُعطى للفهم أي إعتبار، إنما قوة الذاكرة وسرعة الحفظ كانتا كفيلتين بالتفوق وبحصد أعلى الدرجات والنسبة المئوية. 


أيضا أنه ذلك الزمان عندما كانت للإشاعات طعم آخر ونكهة مُرّة؛ فلم تتوفر حينذاك وسائل التواصل الإجتماعي لتأكيدها أو إنكارها. كما لم تكن تلاقي أي إهتمام يذكر من جانب وسائل إعلامنا المحلي في الرد عليها أو بتوضيحها. إذن فور الإنتهاء من الإمتحانات تبدأ الإشاعات بالتداول هنا وهناك عن موعد "يوم الرعب". وبالنسبة لأغلبية الطلبة فإن يوم الرعب هو ذلك اليوم المحدد للإعلان عن النتائج النهائية لإختبارات الثانوية العامة. وأكاد أجزم أنه بسبب هذا اليوم ضُرب به المثل القائل "في يوم الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان"! لأنه فقط أبناء ذلك الجيل يدركون تماما ماذا كان يعني ذلك اليوم بالنسبة اليهم. 


حسنا، تبدأ مراسم تدشين هذا اليوم غير المنشود عند بعض الطلبة، بالإعلان عن أسماء الطلبة الأوائل الذين تصدروا المراكز العشرة الأولى على مستوى السلطنة بشقيها العلمي والأدبي في جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وفي زماننا استحوذ طلبة المعلمين المصريين على غالبية هذه المراكز، ربما لأنهم كانوا يتمتعون بالإهتمام والرعاية والمتابعة من قبل أولياء أمورهم الأساتذة وتحفيزهم على المذاكرة والتفوق. ثم ننتقل بعد ذلك إلى تلك المرحلة التي أصفها بالموت البطيء؛ ويتم خلالها الإعلان على الملأ عبر أثير إذاعتنا المحلية عن نتائج بقية الطلاب الناجحين منهم فقط. وطبعا لا يمكن وصف مدى القلق والهلع الذي ينتابه الطالب وأسرته لحين وصول ذلك اليوم خشية من مغبة الفشل والفضيحة. في البدء يتم الإعلان عن اسم المدرسة ثم تليها أسماء الطلبة الناجحون بتلك المدرسة، اسما اسما ثلاثيا، مع رقم الجلوس، والنسبة المئوية التي حصلوا عليها. يا ويلنا! تخيلوا تلك اللحظات والفضيحة التي ستكون ما بعدها فضيحة قد تلاحقك طوال العمر في حال لم يذكر إسمك خلال وقت الذروة عندما تكون جميع الأذان صاغية من شمال عُمان وجنوبها، ومن شرقها وغربها؛ بحيث تجد الناس بداخل كل بيت وسكة وسيارة متسمرين حول جهاز المذياع. وقد تلاحظ أحيانا تبديل صوت المذيع بمذيع آخر بعد أن يبح صوته ويجف حلقه وتتعب حنجرته من القراءة؛ بينما نتابعه ونحن نرتعد من الخوف ونترجاه في سرنا بالعجلة في القراءة لأن حنجرته تلك هي التي تملك القدرة بتحديد مصيرنا. وبكل تأكيد لن ينتهي الأمر بهذه السهولة بل سيتوج سيناريو تعذيبنا لذلك اليوم المشهود وتكون التتمة في اليوم الذي يليه عن طريق نشر كل تلك الأسماء في الصحف المحلية.. ويا شماتة أبلة ظاظا فينا لو .. !


ويكون من بين سعداء الحظ هؤلاء القلة ممن هم على صلة وتواصل ومعرفة مع أحد المسؤولين في الإذاعة والتلفزيون أو مع إعلامي بارز يعمل في الإذاعة. وقد يبادر بعضهم بلفتة إنسانية كريمة منهم وهي القيام بالإتصال لتهنئة أصحاب الأسماء التي يتعرفون عليها في قائمة الناجحين من بعد تسلمها قبل فترة وجيزة عن موعد الإعلان عنها، لكن ماذا لو كانت هناك أسماء مكررة وقام بتهنئة الشخص الخطأ أو شد على إيده أو كان هناك خطأ مطبعي ما؟!


أما الوسيلة الثانية وربما هي من سابع المستحيلات؛ تكون عبر محاولة الحصول على خط الإذاعة شاغرا ويكون غير مشغول لكي تستفسر عن نتيجتك، ويجب أن تكون كل نجوم الحظ في صفك في ذلك اليوم لكي يرد عليك شخص متعاون قبل موعد الإعلان عن النتائج ويطمئنك بإدراج إسمك في قائمة الناجحين أم لا. وفي حال لم يجد إسمك في القائمة فسوف يكون هناك احتمالان، إما حصلت على الدور الثاني أو من بين الراسبين. وتلقيك هذه المعلومة المبكرة ستكون كافية لمنحك بعض الوقت للفرار من البيت لتجنب توبيخ وثورة غضب الوالدين قبل البدء بالإعلان عن الأسماء لتأجيل موعد العقوبة المحتومة لحين تهدئتهما من ثورة غضبهما. 



لا أتذكر خلال تلك الفترة بوجود مدارس خاصة لمرحلتي التمهيدي والروضة ولكن ما أتذكره جيدا هو وجود عدد قليل من المدارس الخاصة للمراحل الإبتدائية والإعدادية (الصف الأول إلى التاسع اليوم) مثل مدرسة النجاح الخاصة التي كانت ولا زالت تقع في منطقة ممتاز في روي ]علما بأن هذه المدرسة لا تزال قائمة حتى يومنا هذا[. أما بالنسبة للمرحلة الثانوية العامة فقد تم إنشاء مدرسة السلطان الخاصة في العام 1977م وذلك بأوامر مباشرة من السلطان قابوس ولأنها منذ بداية تأسيسها كانت تتبع الديوان وبالتالي فقد اقتصر منتسبيها في ذلك الوقت على أبناء الطبقة المخملية والنخبة والمسؤولين في الدولة. ويمكن القول بأنها كانت شبيهة بمدارس الطبقات الأرستقراطية المنتشرة في كثير من دول العالم.]علما بأن إدارة هذه المدرسة قررت في وقت لاحق بفتح أبوابها لدراسة الجميع فيها ممن بإمكانهم تحمل دفع رسومها - على حسب ما علمت- فقد جاء هذا القرار بعدما عجزت المدرسة بتكبد نفقاتها الباهضة بسبب قلة الطلبة فيها[. بينما درس أمثالي من عامة الناس في المدارس الحكومية العامة والتي كانت عددها في مسقط لا تتجاوز أصابع اليد الواحد مثل مدرسة الزهراء الثانوية للبنات التي تقع في منطقة مسقط ومدرسة أسماء بنت أبي بكر في كورنيش مطرح ومدرسة دوحة الأدب في منطقة الخوير ولقد كنت ضمن أول دفعة تدرس فيها.


رغم أنه حتى في ذلك الوقت لم تكن هناك جامعات أنشئت في عُمان بعد، لكن اللوائح الرسمية كانت تُقصي خريجي المدارس الخاصة من الحصول على البعثات الحكومية للدراسة الجامعية في الخارج. ولا أعلم ماذا كان السبب وراء ذلك القرار! رغم أنه في فترة الثمانينات كانت عُمان تعيش فترة إزدهار وحقبة ذهبية بسبب إرتفاع أسعار النفط ووجود الوفرة مقابل عدد محدود من الطلبة من خريجي الثانوية العامة. وفي إعتقادي أنه جاء ذلك القرارعلى إعتبار أن هؤلاء الطلبة كانوا ينتمون إلى أسر ميسورة الحال في البلد وربما كانوا يحصلون على إمتيازات معينة وبالتالي كان بمقدورهم تحمل نفقات دراسة أبناءهم في الخارج. لكن في المقابل كنا نشاهد خلال السنوات الأخيرة من الدراسة في الثانوية العامة هجرات جماعية وموجة انتقال لطلبة المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية لأجل الإستفادة من نظام البعثات.

أما بالنسبة لمدارس البنين فقد تواجدت المدرسة السعيدية الشهيرة  في مسقط وهي أول مدرسة عُمانية للبنين ومدرسة حسان بن ثابت في مطرح ومدرسة الوليد بن عبدالملك في روي ومدرسة جابر بن زيد في الوطية وهي المدرسة التي كانت تقام فيها غالبية الأنشطة المدرسية بمحافظة مسقط سواء كانت الرياضية أو الفنية أو الثقافية أو الكشفية. وأيضا احتضنت مدرسة جابر بن زيد في الفترات المسائية تدريبات التجنيد الإجباري للطلبة الذكور ممن هم في مرحلة الثانوية العامة وأيضا دروس تعلم اللغة الفرنسية وبرامج تعليم الكبار للغة العربية لغير الناطقين بها من العُمانيين العائدين من الخارج. ولقد تم تصميم منهج خاص لهم لمعاونتهم في تعلم اللغة العربية ومساعدتهم باندماجهم في المجتمع. كذلك كانت تقام فيها تدريبات عروض طلبة المدارس للأعياد الوطنية بقيادة الأستاذ يوسف (المصري الحائز على وسام سلطاني) وذلك قبل موعد إقامتها بداخل إستاد الشرطة  الذي يقع في الجوار.
 
في ذلك الوقت كنا نسمع عن مدرسة السلطان الخاصة وما يدور في أروقتها كقصص الخيال وأصبحت الإشاعات تتداول ونسمع عن قصص وحكايات دون أن ندرك عن مدى صحتها؛ خصوصا وأنها كانت -على حسب علمي- المدرسة المختلطة الوحيدة الموجودة في السلطنة للعُمانيين حينذاك. ولهذا فقد إنتابنا الفضول لإكتشاف المزيد عن هذه القلعة الحصينة والغامضة، حتى جاء ذلك اليوم عندما تلقت مدرستي الحكومية واسمها نجية بنت عامر الإعدادية للبنات، الواقعة في منطقة الحمرية دعوة من إدارة مدرسة السلطان الخاصة لفريق مدرستنا للعبة كرة الطائرة للعب في مباراة ودية ضد لاعبات مدرسة السلطان الخاصة في ملعبها. وذلك بعد أن حازت مدرستي على المركز الأول في الأنشطة الرياضية على مستوى المحافظات، وكوني لاعبة في فريق المدرسة للعبة كرة الطائرة واليد بالتالي كنت من ضمن المدعوات، وشعرت يومها بأنني أخيرا سوف أخترق تلك القلعة الحصين. ]علما بأن مدرسة نجية بنت عامر أصبحت اليوم آيلة للسقوط وتم نقل اسمها إلى مدرسة إبتدائية تقع في منطقة الحيل مقابل مشروع الموج[


وهكذا تجمعنا في عصر ذلك اليوم المحدد وتم نقلنا عبر حافلة المدرسة إلى مدرسة السلطان الخاصة في منطقة الحيل الجنوبية، وهي لا تزال قائمة في نفس هذا الموقع حتى يومنا هذا. عندما تجاوزنا بوابة المدرسة المحيطة بسور وحراسة إستقبلتنا معلمة التربية البدنية البريطانية مع بعض طلبة وطالبات من فريق المدرسة ممن كنا سنتبارى معهن. في الحقيقة لقد تلقينا ترحيب وحفاوة منهم وأول مرة في حياتي أرى مدرسة كبيرة واسعة وبها مطعم كبير أكلنا منه بعض الخفايف والمرطبات بعد إنتهاءنا من لعب من المباراة. كما حضر مجموعة من المشجعين من طلاب وطالبات المدرسة ولقد كان الجميع لطيف معنا. كنا نرتدي الزي الرياضي الأبيض (قميص وبنطلون) المخصص للتربية البدنية، بينما كن يرتدين قمصانا منقوشا عليها اسم المدرسة وطقما رياضيا باهض الثمن. لفت إنتباهنا بأن جميع من كان يدرس أو يعمل في مدرسة السلطان الخاصة يتحدثون معا باللغة الإنجليزية حتى فيما بين الطلبة العُمانيين. وعلمت لاحقا بأن تلك كانت تعليمات صارمة من إدارة المدرسة التي تمنع طلبة مدرسة السلطان من التحدث فيما بينهم باللغة العربية لأجل سرعة إتقانهم للغة الإنجليزية. كنت مع أغلبية زميلاتي من فريق مدرستي نفهم اللغة الإنجليزية جيدا وأيضا نتحدث اللغة السواحلية بطلاقة فقررنا أن نتحدث اللغة السواحلية معا أثناء المباراة لكي لا يفهمونا. وأصبحهن هن ومعلمتهن وجمهورهن يشجعن ويصرخن ويتحمسن وأحيانا يتذمرن باللغة الإنجليزية خصوصا بعدما أخرجناهم بهزيمة ساحقة بينما كنا نحن نسخر منهن بالسواحلية. وفي النهاية مع طريقة تواصلهن باللغة الإنجليزية وسخريتنا منهن باللغة السواحلية لم تغب عن سماء ذلك اليوم سوى اللغة العربية!


يُتبع ..