قبل عدة أيام، كنت أتابع لقاءً يُبث على الهواء مباشرة عبر أثير إذاعة عُمان الرسمية الناطقة باللغة الإنجليزية.
الجانب الإيجابي الذي لفت انتباهي وأعجبني هو منح الفرص للوجوه الإعلامية الشابة في مختلف القنوات الرسمية، سواء الناطقة بالعربية أو بالإنجليزية، بعد أن شهدنا على مدى عقودٍ مضت احتكارًا من قِبَل فئة محددة لجميع وسائل الإعلام المحلية، مما حال دون إتاحة المجال أمام الشباب للظهور والإبداع.
مذيعة البرنامج، وهي عُمانية، كانت قد ذكرت سابقًا عبر حسابها الشخصي أن والدتها أجنبية، لكنها نشأت ودرست في عُمان، وتخرّجت من إحدى المدارس الخاصة. أما ضيفة الحلقة، فهي أيضًا عُمانية درست في المدارس الخاصة، لكنها تقيم حاليًا في الخارج.
إلا أن ما أثار دهشتي حقًا هو عندما طرحت المذيعة على الهواء سؤالها لضيفتها:
“هل تتقنين اللغة العربية؟”
فأجابت الضيفة: “لا، لغتي العربية ضعيفة، ولهذا أشعر بالغربة حين أحتك بالمجتمع العُماني، لأنهم يبدون امتعاضهم من ذلك في كل مرة!”
لترد المذيعة قائلة: “أتفهم هذا الإحساس جيدًا، لأني أعيشه أيضًا!”
يا إلهي! ما هذا؟
خلال حقبة المنتديات الإلكترونية، طرحت الدكتورة سعيدة خاطر مقالًا تناولت فيه إشكالية عدم إتقان فئة من العُمانيين للغة العربية. لكن للأسف، لم يلقَ مقالها قبولًا لدى شريحة واسعة من المجتمع؛ إذ شعر كثيرون بأن المقال حمل نبرة إساءة أو انتقاص، بدلًا من أن يُفهم كدعوةٍ صادقة وهادفة للنقاش والبناء.
وقد أدّى ذلك إلى ردود فعل سلبية واسعة، ترافقت مع حملة من الانتقاد والإساءة والتشهير ضد الدكتورة، في حين جرى تجاهل جوهر الموضوع الذي أثارته، رغم إدراكنا جميعًا لأهميته البالغة وحساسيته في ظل التحولات الثقافية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع العُماني.
مؤخرًا، وأثناء متابعتي لإحدى حلقات منصة بودكاست “مصعد” التي استضافت المليونير العُماني الدكتور محمد البرواني وزوجته الأستاذة شريفة الحارثية، لفت انتباهي أمرٌ واضح:
فالبرواني، رغم عودته إلى عُمان من شرق أفريقيا منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان حينها في ريعان شبابه، لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا بتعلّم اللغة العربية وإتقانها. والأمر ذاته يمكن ملاحظته لدى كثيرين من الجيل الأول من العُمانيين العائدين من زنجبار وشرق أفريقيا إلى عُمان.
ويمكنني – إلى حدٍّ ما – تفهّم هذا الأمر، إذ من الطبيعي أن ينشغل الجيل الأول من المهاجرين، أينما كانوا في العالم، ببناء حياتهم من الصفر، والسعي إلى التأقلم والاندماج في مجتمعاتهم الجديدة.
وهذا النمط يتكرر في تجارب شعوبٍ عديدة؛ فالمهاجرون الهنود إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة أو كندا – على سبيل المثال – نادرًا ما يتقنون لغة البلد الجديدة في الجيل الأول، لانشغالهم بالعمل والتأسيس، بينما يظهر الجيل الثاني وما بعده أكثر اندماجًا وانتماءً، مع إتقانٍ أكبر للغة المجتمع الجديد، مع حفاظ الكثير منهم على روابطهم الثقافية والأسرية مع أوطانهم الأصلية.
لكنّ الوضع كان مختلفًا تمامًا بالنسبة للعُمانيين العائدين من شرق أفريقيا.
فقد وجد هؤلاء أمامهم مجتمعًا محليًا بسيطًا يعاني من الأمّية والفقر، بينما كان أغلب العائدين متعلمين ويتقنون اللغة الإنجليزية بطلاقة، وبالتالي، لم يجدوا صعوبة في الحصول على وظائف مرموقة، نظرًا للحاجة الماسة إليهم في تلك الفترة التي شهدت الطفرة النفطية، ولم يكن إتقانهم للغة العربية شرطًا للتوظيف. حتى إن بعضهم، إلى يومنا هذا يستخدمون اللغة الانجليزية لغة أساسية داخل منازلهم للتحدث مع أبنائهم.
في الحقيقة، أرى في هذا المشهد نموذجًا واضحًا لنجاح الاستعمار الثقافي، تمامًا كما حدث في العديد من الدول الأفريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي، حيث استطاعت فرنسا فرض لغتها وثقافتها في مجتمعات تلك الدول، حتى أصبحت اللغة الفرنسية مفضّلة على اللغة الأم، بما في ذلك بعض الدول العربية مثل تونس والمغرب والجزائر.
ومؤخرًا، أعلنت الجزائر عن موقفها الواضح في مقاومة هذا الاستعمار الناعم، من خلال تفعيل اللغة العربية وجعلها اللغة الرسمية للدولة، في خطوة تُعبّر عن إرادة ثقافية وسيادية تهدف إلى استعادة الهوية اللغوية العربية في وجه الهيمنة الأجنبية.
وبما أنّ اللغة الإنجليزية يُروَّج لها اليوم على أنّها لغة التمدّن والطبقة الراقية، فقد تخلى كثيرٌ من الزنجباريين عن لغتهم الأم، سواء كانت العربية أم السواحلية.
ولا يمكننا إنكار أنّ الإنجليزية هي لغة العلم والمعرفة في هذا العصر، وهذا أمرٌ لا جدال فيه. لكن ما كان ينبغي أن يتجاوز الأمر حدود اكتساب العلم والمعرفة والتواصل الانساني، بدلا من أن يتحوّل إلى استسلامٍ للاستعمار الثقافي الناعم الذي بدأ يتسلّل إلى بيوتنا ويغزو مختلف شرائح المجتمع العُماني.
اليوم، لم يَعُد مقبولًا أن نجد أبناءنا عاجزين عن التحدث بالعربية، أو أن نتذرّع بأيّ مبرر لتبرير ذلك.
فهنا في ألمانيا، حيث أقيم، لا يمكن لأيّ مهاجر الحصول على حقّ الإقامة الدائمة أو الجنسية أو العديد من فرص العمل دون إتقان اللغة الألمانية بمستوى يفوق أحيانًا المواطن الأصلي! إضافةً إلى اجتياز اختبار الاندماج الذي يشمل التاريخ الألماني، والنظام السياسي، ومعرفة رموز الدولة كألوان العلم والنشيد الوطني.
والدتي، رحمها الله، كانت من بين الذين قاوموا الاستعمار الثقافي الأجنبي فور عودتها إلى عُمان. فقد شاركت، مع المئات من العائدين، في البرنامج التعليمي المجاني الذي أطلقته الحكومة العُمانية آنذاك لتعليم اللغة العربية في المدارس المسائية، حيث خُصص منهجٌ خاص للعائدين.
لا أنسى مشهدًا عالقًا في ذاكرتي من إحدى رحلاتي الجوية، حين كانت تجلس بالقرب مني إحدى الأمهات العُمانيات برفقة أطفالها. كان أحدهم شديد الشقاوة، لا يهدأ لحظة، يترك مقعده بين الحين والآخر، بينما كانت الأم تناديه بصوتٍ حاد وبلكنة عُمانية محلية قائلة:
“خلفان! كام هير!”
كان المشهد بسيطًا في ظاهره، لكنه في عمقه يعكس حالة لغوية مؤلمة نعيشها اليوم؛ حيث بدأت اللغة العربية تتراجع حتى في نداءات الأمهات لأبنائهنّ داخل البيت، لتحلّ محلها لغةٍ أجنبية تُستخدم بلا وعي، على اعتبارها أكثر مكانة ووجاهة.
